الفلسفة بلغة العالم

“الحكمة الوحيدة الحقيقيَّة: أن تعرف أنك لا تعرف”

المفارقة السقراطيَّة الشهيرة التي أتذكرها كلما توقفت عن البحث والسؤال، فعندما يتوقف الإنسان عن طرح الأسئلة والاستكشاف يقع في “الجهل المُركب” وهو: عدم معرفته بالشيء إلى جانب الجهل بعدم المعرفة!

كل ما نراه حولنا من ظواهر أو قوانين طبيعيَّة أصبحت اعتياديَّة بل أقرب للحتميَّة، لا نتساءل عن عدم قدرة الإنسان عن الطيران أو عن دورة القمر المتكررة -بدقة- شهريًا أو حتى نتأمل ما حولنا للتأكد من صحته أو عدمها!

هنا جاء دور الفلسفة في رؤية العالم بشكلٍ غير اعتيادي، رؤيته على هيئة “لغزٍ” يستحق التفكير.

تدور رواية “عالم صوفي” حول صوفي أموندسن، فتاة تزامن اقتراب عيد ميلادها الخامس عشر مع وصول رسائل مجهولة المُرسِل، تحتوي تلك الرسائل على أسئلةٍ مثل: “من أنتِ؟”، “من أين جاء العالم؟”. قد تبدو الأسئلة بديهيَّة وبسيطة، لكنها تحمل بُعدًا عميقًا لمن يُخضِع كل شيءٍ للسؤال.

خلال رحلة بحث صوفي عن الإجابات تعرَّفت على ذلك الغريب صاحب الرسائل وهو: ألبرتو كونيكس، الذي توَّلي مهمة تعليمها أصول الفلسفة عبر سرد تاريخها وما به من تطورات. تبدأ صوفي رحلتها مع طاليس الذي تنبأ بكسوف الشمس الكامل، مرورًا بفلاسفة أثينا مثل: سقراط وأفلاطون وأرسطو، ثمَّ إلى العصور الوسطى وعصر النهضة وفلاسفة التنوير والحداثة، وصولًا إلى عصرنا الحالي مع: نيتشه وسارتر وغيرهم من أبناء القرن العشرين.

وظَّف الكاتب بعض الفلسفات خلال سرده للأحداث مثل: فلسفة بيركلي، وظهر ذلك في فكرة “عالم داخل العالم” والتي تتجلى مع اكتشاف صوفي وألبرتو أنهما مجرد شخصيات داخل روايةٍ أخرى، وأن محاولاتهم للتمرد والخروج منه ما هي إلا سطورٌ كُتبت مسبقًا!

تلك المستويات السرديَّة والقصة المكتوبة داخل قصةٍ أخرى ليست مجرد فكرةٍ مميزة أو طريقة تقديم لمدرسة فلسفيَّة، بل تساؤلٌ منفرد عن معنى الحقيقة وما هو “الحقيقي”؟

عالم صوفي هي رواية تجمع بين الخيال وتعلُّم التاريخ، تتميز بسلاسة الأسلوب وإضفاء طابعٍ تفاعلي يُخفف وطأة المفاهيم الفلسفيَّة. حققت الرواية شهرةً واسعة في الأدب الفلسفي الحديث وتُرجمت إلى عشرات اللغات؛ لقدرة جوستاين جاردر -الكاتب- على جذب القارئ بتحويل الفِكر الإنساني والتاريخ الفلسفي إلى رحلة استكشاف، كما أن خبرته كأستاذٍ في الفلسفة جعلته يستخدم الأسئلة التي قد تراودنا أثناء القراءة على لسان البطلة.

لمْ يهدُف الكاتب إلى كتابة رواية تعليميَّة مُبسطة عن الفلسفة وتطوراتها وحسب، بل أراد دعوة القراء إلى تبنِّي منظورٍ فلسفي للحياة، والبحث والتفكير في أسئلةٍ تخصُّ الذات أو الكون بدلًا من التسليم للاعتياديَّة دون تفكير. عملٌ يُقرِّب القارئ من الفلسفة، ويدفعه للعودة إليه مراتٍ عديدة بحثًا عن جوانب جديدة لم يُلاحظها في المرة السابقة.

– التقييم:(8.5/10).

Previous Article

وطني الغريب والذي أعرفه!

Next Article

عشرون عامًا من الوطن

Write a Comment

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا

اشترك في النشرة الإخبارية عبر البريد الإلكتروني للحصول على أحدث المنشورات التي يتم تسليمها مباشرة إلى بريدك الإلكتروني.
Pure inspiration, zero spam ✨