أثناء قراءتي لكتاب “الجنس الآخر” لـ”سيمون دي بفوار” -إحدى رموز النسويَّة ومُنظِّريها- التي عبَّرت فيه عن الرؤية النسويَّة للواقع والتاريخ. في محاولةً مني لفهم تلك الرؤية وطريقة تفكير أصحابها، رغبت بعد الانتهاء منه الإطلاع على أحد الأعمال النقديَّة لهذا الطرح، فقلت: لا بد أن الدكتور عبدالوهاب المسيري -رحمه الله- ناقش هذا الفكر، وبالفعل وجدت رؤيته التحليليَّة النقديَّة في كتابه “قضية المرأة بين التحرير والتمركز حول الذات”.
في الوقت الحاضر.. وفي خضم معركة الوعي والفكر، ثمة غيابٌ ملحوظ للرؤى النقديَّة لكل ما نتلقاه من العالم الغربي من: مصطلحات، مفاهيم وأفكار. إذ نكتفي غالبًا بنقل تلك الأفكار كما هي دون أن نطرح أسئلةً نابعةً من مرجعيتنا الدينيَّة، أو حتى تجرُبتنا الإنسانيَّة والتاريخيَّة. تُعد “النسويَّة” من أبرز القضايا الفكريَّة المُثارة التي وَفدت إلى عالمنا الإسلامي، في هذا السياق سعى الدكتور “عبدالوهاب المسيري” في كتابه هذا إلى تفكيك مصطلح النسويَّة من منظور إنساني وحضاري، مستندًا إلى التجربة التاريخيَّة للمجتمعات.
صدر كتابه عام (1999) عن دار نهضة مصر للنشر والتوزيع، ضمن سلسلة “التنوير الإسلامي”. يبدأ الدكتور عبدالوهاب المسيري بتأصيل الأساس الفلسفي الذي انطلقت منه النسويَّة، وهو المذهب المادي أو ما يُسميه بـ”الواحديَّة الماديَّة”، أي اختزال وتفسير الإنسان بوصفهِ كائنًا ماديًا طبيعيًا. فالماديَّة ترى الإنسان كمجموعة من الذرات تحكمها قوانين الطبيعة، وتتحكم في سلوكه غرائز البقاء والبحث عن اللذة، والمصلحة الماديَّة الفرديَّة. وبذلك، فهي تُنكر أي بُعد روحي أو أخلاقي أو غائي يتجاوز الإنسان، وفي هذا السياق الفلسفي ظهر مصطلح (Feminism) أو النسويَّة بوصفها امتدادًا لهذه الرؤية.
يَصف المسيري “النسويَّة الراديكاليَّة” بأنها: تيار يرى أن الجذور العميقة لاضطهاد المرأة تكمُن في بنية نظام المجتمع الأبوي أو الذكوري ذاته، الذي تتمثل مؤسساته في: الدين والأسرة التقليديَّة.. إلخ. يرى هذا التيار أن تحرير المرأة يبدأ من إعادة هيكلة شاملة وجذريَّة للعلاقات بين الجنسين، وتفكيك المؤسسات والأفكار التي تُكرِّس الهيمنة الذكوريَّة ثم تتمركز حول ذاتها؛ لتجعل من نفسها المرجع الشامل والأوحد التي تستمد منه مبادئها وقِيَمها دون أي التزام بالدين أو المجتمع.
ثم يُبين المسيري الفارق الجوهري بين النسويَّة وحركات تحرير المرأة التقليديَّة التي ظهرت في القرن (18)، وهو أن تلك الحركات كانت تقوم على أساس ما يُسميه بـ”الواحديَّة الهيومانيَّة”، أي الإيمان بإنسانيَّة مشتركة بين الرجل والمرأة؛ فكانت مطالبها تنطلق من إطار الفطرة كرفض الظلم، وحق التعليم مع مراعاة الفروق الطبيعيَّة بين الجنسين، ودون إنكار دورها التاريخي والإنساني كأم وزوجة وأخت. أما النسويَّة فهي تنظر إلى التاريخ كساحة صراع بين الذكر والأنثى، وتجعل من الرجل نِدًا وعدوًا متأمرًا ومتربصًا لها، بدلًا من كونه شريكًا وسكنًا للنفس، ومصدرًا للمودة والتراحم!
يُواصل المسيري بعد ذلك في عرض الإشكالات الاجتماعيَّة والأخلاقيَّة الناتجة عن الفكر النسوي وتفكيكها، أبرزها: تقويض مؤسسة الأسرة بوصفها بنية ذكوريَّة سلطويَّة، فقدان المرأة لهويتها الإنسانيَّة وتجردها من أدوارها الفطريَّة، العلاقة بين النسويَّة وتسليع المرأة وتشيؤها؛ مما يخدم مصالح الرأسماليَّة، تفكيك اللغة بوصفها أداة لتعزيز الهيمنة الذكوريَّة. ثم يطرح المسيري في النهاية نموذجًا بديلًا في إطار الإنسانيَّة المشتركة، ومؤسسة الأسرة بوصفها إطارًا طبيعيًا وحضاريًا للتكامل لا الصراع.
وقد لفت المسيري انتباهي وأدهشني بتحليله حينما وضح كيف أن النسويَّة تُحوِّل المرأة إلى “وحدة إنتاج واستهلاك” لخدمة الرأسماليَّة العالميَّة، وفي الحقيقة هذا واقع نعيشه الآن أكثر من أي وقتٍ مضى، وذلك من خلال عدة آليات، منها: تشجيع المرأة على العمل وتخليها عن أمومتها بدعوى “التمكين وتحرير المرأة”؛ وبالتالي تُفتح أسواقٌ جديدة ويحدث انفجار في الطلب على الخدمات المدفوعة: الحضانات، وجبات سريعة التحضير من المطاعم، نظافة المنزل. تشجيع المرأة على “الفرديَّة المطلقة” والاستقلالية عن الأسرة؛ مما يؤدي إلى زيادة الطلب على الوحدات السكنيَّة الفرديَّة، السيارات المنفردة.. إلخ.
“قضية المرأة بين التحرير والتمركز حول الذات” كتاب يُقدم طرحًا فكريًا متميزًا، يتناول القضية من جذورها بلغةٍ غير معقدة ونسق متسلسل، بدءًا من الفلسفة الماديَّة إلى تأثيرها على المرأة. يكشف عن الخلفيات الفلسفيَّة للنسويَّة، والرؤى الماديَّة الغربيَّة، وهي زاوية نقديَّة نادرة الحضور في الأدبيات العربيَّة، أهم ما يُميزها محاولة تقديم نموذج إنساني يحفظ الحقوق والأدوار، ضمن إطار التكامل لا التصادم.
– التقييم: (8/10).