رسائل ريلكه: دروس في الإبداع والحياة

في رحلة بَحثتُ فيها عن الوَنس، وجدتُ نثرًا لشخص لم يكتب إلا شعرًا، لشاعرٍ -هو الأكثر تأثيرًا في القرن العشرين-، مُتميز بأسلوب ساحر مَمزوج بالرؤية الروحيَّة والفلسفيَّة والتأملات العميقة في الوجود والموت، المُتميز بالكثافة العاطفيَّة والرمزيَّة الشاعر النمساوي الشهير “راينر ماريا ريلكه”. اعْتَرَاني الفضول وبحثتُ عن الكتاب لأجدُه “رسائل مُجمعة” بين الشاعر كابوس وبينه، كان يسأله فيها عن نصائح لشاعرٍ مُبتدئٍ مِثلُه، تطوّر الحوّار بينهما ليشمل قضايا: الوجود، الحب، الفقد، الجمال، الحزن والوحدة، متحدثًا فيها بصيغة الفيلسوف والصديق. لمْ أتركه حتى انتهيت منه! -بعدما فَتحته لأُلقي نظرة على قائمة محتوياته فقط-، تَركني في حالة ذهول، تأمل وجمال لم أعهده قط! شعرت بأنني كنت بحاجة إلى ذلك الإرشاد الروحي، تتحدث الرسائل عن: الفن، الإبداع، الحياة الداخليَّة والوحدة، بما في ذلك إرشادات لكي ندرك أصل الحياة وفلسفتها، ويُفسِر عادةً الفلسفة ومحاولاتها لأن تصل لأعماق الحقيقة وتفهمها، ولكنها في كل مرة لا تصل إلا للقشرة، وكل كاتب وفيلسوف ما هو إلا شخص يحاول باحثًا ربما يجد إدراكًا جديدًا ليس إلا.

حين تتنقل بين صفحات الرسائل، لوهلة تقف وتلتفت حولك، تتأكد أنك بمفردك، غير مُراقَب، كيف لرسائل أن تَلمسك لهذا الحد وكأنها كُتِبت لَك خصيصًا! وكأن أحدهم اقتحم عقلك، ودخل في أرشيف الرسائل الوجوديَّة المعلقة، وأتي بإجابات عنها!

“الإبداع هنا بالداخل، وليس في مكان آخر”

يُبرز ريلكه في رسائله فكرة أن الفن والإبداع ليسا مجرد وسيلة للشهرة أو النجاح، بل ضرورة داخليَّة تنبع من أعماق النفس، وأن الفن ليس غاية بذاته؛ ولكنه محاولة لفهم الحياة. انجُ بنفسك من معالجة المواضيع العموميَّة، صِف أحزانك، أمانيك، الأفكار التي تعترضك وإيمانك بأي جَمال ما، وتعمَّق في ذاتك وابحث في أعماقها -التي تنبع منها حياتك-، ففي نَبْعِها سَتجد الإجابة عن السؤال: ما إذا كان عليك أن تُبدع؟

“الوحدة الإبداعيَّة”

يرسم راينر هروب البشر من الوحدة كأنها وحشٌ مؤذٍ، يرى وجود الوحدة ليس شيئًا عبثيًا ولا أوقات وجودها وُجِدت لتعاسة الإنسان؛ بل هي فرصة للنمو الروحي والفكري وشرط للنضج الروحي، ناصحًا الشباب بتقبل الوحدة كصديق مُخلص واستنباط الرسائل الروحيَّة التي تحملها في جُعبتها.

“الفن للحياة”

مع رسائله نفهم ألا نعيش الحياة كي نصل لقالب معين فقط، وأن في وجودنا البشري فلسفة وفن، فكل لحظة هي فرصة لخلق الجمال. بعضنا لا يُدرك القيمة والمعنى في التفاصيل البسيطة، وأن في أصغر الأشياء والمشاعر تكمن روح الحياة، وباستطاعة الفنان الحقيقي أن يُخرج الجمال من أبسط التفاصيل العادية اليوميَّة.

“الحب كعملية للنضج، وليس للهروب”

يُناقش ريلكه الحب كعلاقة ناضجة تقوم على الاستقلاليَّة، ينمو فيها كل شخص على حدة -بتجربته الفريدة-، وأن الاختلال الحالي في مفهوم العلاقات الصحيَّة جعل المرء غير مُدركٍ لغاية وجود العلاقات الإنسانيَّة، وهي المساهمة في التطوير الروحي والدعم الروحي، وليس الانغماس والاندماج حَدَّ أن تضيع هويتك! بعدها تبحث ضائعًا عن نفسك فلا تجدها، وغيرها من الأفكار المُلهمة التي تحتويها الرسائل التي ستكتشفها في حين قراءتك للكتاب.

“والأمر يتعلق بأن تعيش كل شيء، عِش الأسئلة الآن، ربما يجعلك ذلك تعيش يومًا ما بالتدريج في الإجابة دون أن تُلاحِظ”.

العمل مُترجم عن اللغة الألمانيَّة، ترجمة سلسة لا تحيد من استمتاع القارئ بالعمل، ترجمة صلاح هلال -الأستاذ المعتمد من معهد جوته وجامعة ميونج وبروفيسور في كليَّة التربيَّة جامعة عين شمس-، إن دل ذلك على شيء فلا يدل إلا على كونه مُتبحِّرًا في اللغة، فجاء النص كوجبة متناولة الأركان، يستمتع القارئ بها بسلاسة. ينتقل بطريقة أدبيَّة شاعرة دون أن يفقد حس الكاتب، يندمج مع مصطلحات اللغة العربيَّة ويحس روح العصر حينذاك، كل ذلك في تناغم تام.

فقط في سبعين صفحة، ستعيش تجربة مميزة مع صفحات ذلك الكتاب، وسط التأملات والأفكار التي ستجعلك تنتقل متسائلًا بعد نهاية كل فصل: كيف لذلك الإدراك البسيط المُساهم في نَقلة جَذريَّة في الوعي أن يكون غائبًا عني؟

– التقييم: (10/10).

Previous Article

شارك تانك: بين الشغف والفرص الحقيقية

Next Article

عاشق الحقيقة الحزين

Write a Comment

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا

اشترك في النشرة الإخبارية عبر البريد الإلكتروني للحصول على أحدث المنشورات التي يتم تسليمها مباشرة إلى بريدك الإلكتروني.
Pure inspiration, zero spam ✨