منذ قرون نعيش في ضياع تدريجي للهويَّة واضطراب الثقافة الأصيلة في نفوس المسلمين، ومع تصادم الثقافة الأوروبية بعالمنا الإسلامي، وسيطرتها على الوجدان واجتياحها حياة المسلمين كالسيل الجارف تهدم السدود وتُقَوِّض كل قائم في النفس والفطرة. أصبحنا في حاجة للاطلاع على تراثنا الثقافي من كتب الأولين والمتأخرين، والتأمل في ذلك الإرث العظيم الذي خلَّفه لنا أسلافنا من ثقافة متكاملة وفاء بجذور الهوية والمعرفة. وكنت قد سمعتُ من أحدهم قائلًا: “لا بد لكل مسلمٍ أن يطَّلع على كتاب رسالة في الطريق إلى ثقافتنا”، لمؤلفه الأديب والكاتب الكبير محمود شاكر -رحمه الله-. الذي يقصُّ علينا كيف بدأ هذا التمزق، ويكشف الخطوط الخفية التي أوصلتنا لما نحنُ عليه.
يتحدث المؤلف عن فترته العمرية بين السابعة عشر إلى أن بلغ السابعة والعشرين، عندما كان منغمسًا في الحياة الأدبية إذ شعر فجأة بفسادها من كل وجه، فلم يجد لنفسه خلاصًا إلا بالرفض التدريجي لكثير من المناهج الأدبية والسياسية والاجتماعية والدينية، وعقد العزم على أن يُسخر ما فطره الله عليه من فطنةٍ، وما ناله من المعرفة بالسمع والبصر، وكل سجيَّة لانت له بالإدراك؛ لينفذ إلى جوهر البيان الذي كرَّم الله به آدم -عليه السلام- وذريته. فبدأ بإعادة قراءة كل ما وقع تحت يده من كتب أسلافنا: من كتب التفسير لكتاب الله، وعلوم القرآن، ودواوين حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وشروحها، مرورًا بما تفرع من كتب مصطلح الحديث، وكتب الرجال والجرح والتعديل، مع الفقهاء في الفقه، وأصول الفقه وأصول الدين، وصولًا لكتب الملل والنحل، ومعهم بحرٍ زاخر من كتب الأدب والنقد، والبلاغة، والنحو، واللغة، وكتب التاريخ. ولم تخل قراءته من تراث الفلسفة القديمة، والحساب القديم، والجغرافيا القديمة، وكتب النجوم وصور الكواكب، والطب القديم ومفردات الأدوية، والبيطرة والفِراسة.
كانت قراءته متأنية عند كل لفظ ومعنى، يقلبهما بعقله، ويجسهما جسًا ببصره وبصيرته، وكأنه يريد أن يتحسسهما بيده ويشم ما يفوح منهما بأنفه، ويسمع دبيب الحياة منها بأُذُنِه. وقد سمى هذا الأسلوب بـ”منهج تذوق الكلام”، وهو معني باستنباط دفائن ما تنطوي عليه ألفاظ القائل من دفين العواطف والأهواء من خير وشر، وصدق وكذب، وإزاحة الستار عن معانيها، والمقاصد المُرضية أو المستكرهة وما إلى ذلك. وقد تبين له يومًا أن هذا النهج كان مكتمل الأركان، تتجلى ملامحه منذ عهد رسول الله وصحابته -رضوان الله عليهم-، وامتد أثره في التابعين ومن جاء بعدهم.
ثم شرع المؤلف في وضع قاعدة في التبصُر؛ لكي ندرك مكامن الخطر والفساد الحاصل في ثقافتنا، وقد استوقفتني هذه القاعدة لما فيها من وعي، ورصانة المنهج، فقال -رحمه الله-: “وإذا نحن أغفلنا التاريخ، ولم نتبيَّنه، خالفنا سنَّة العقلاء المميزين في التبصر والتبين.” وقد بيَّن لنا المؤلف حال الشعوب الأوروبية قبل عصر النهضة، إذ كانوا غارقين في عصورٍ مظلمة من الجهالة، وكانوا همجًا لا يجمعهم دينٌ جامع؛ حتى بزغ فجر عصر النهضة.
كما ذكر المؤلف أمرين إغفالهما؛ يضر بتصورنا لحقيقة النهضة الأوروبية، أما الأول، فهو: الحروب الصليبية وتبعاتها والأمر الثاني، فهو: سقوط القسطنطينية، فبعدهما بدأت تلك الحضارة الراقية تفتنهم شيئًا فشيئًا مع كثر الاحتكاك بها؛ وأدرك بعضهم سر قوة تلك الحضارة، وهو العلم بشقيه: الدنيوي والآخروي.
أيقظ شيخ العربية -رحمه الله- بصيرتي على دور الاستشراق والمستشرقين بنظرةٍ ثاقبة لم أجد لها نظيرًا. فأثناء الغفوة الحضارية التي أصابت ديار الإسلام، أوفدت أوروبا بعثات الاستشراق بثوب البراءة وطلب العلم، حتى جمعوا ما استطاعوا من كنوز المعرفة التي بلغها المسلمون في ذلك الوقت تارة بالتعلُّم، وتارة بسرقة الكتب، وتارة أخرى بشرائها… فأهدافهم لم تكن علمية بحتة، بل كانت تحمل في طياتها مقاصد خفية، والدليل على ذلك: دراستهم لأحوال المسلمين، من عامتهم إلى خاصتهم، ورصد مواطن القوة والضعف في المجتمع، وصناعة صورة مشوَّهة عن الحضارة الإسلامية مغطاة بثوب “المنهج العلمي”؛ لتضليل القارئ الأوروبي، وتعزيز سردية التفوق الغربي منذ القدم. وقد امتد أثر الاستشراق إلى العصر الحديث، متغلغلًا في أوطان المسلمين، زارعًا للفتن، مؤججًا للصراعات الداخلية.
ينتقد المؤلف بعض السياسات التي انتهجتها الدولة المصرية في عهد محمد علي، مثل: سياسة الابتعاث، لما خلفته من تبعات سلبية عمقت من التصدع الثقافي في البلاد، ووفرت منفذًا للاستشراق الأوروبي لدس أفكاره، وزيادة نفوذه، وتوسيع نطاق اختراقه الثقافي للبلاد. كما انتقد بعض الشخصيات البارزة في العصر الحديث، مثل: رفاعة رافع الطهطاوي، الذي يرى أنه زاد من هذا التحول والتغريب الثقافي.
صدر هذا الكتاب عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام (1997م).. كتاب يلامس قضايا جوهرية بثقل معرفي وأسلوب بليغ أخّاذ يستحق أن يُطالع، ففتح أمامي آفاقًا جديدة، وزوايا كانت غائبة عني، أعجبتني بلاغة الكاتب، وروعة تشبيهاته. كتاب زاخر بالمعلومات ومشحون بالأدلة والوقائع التاريخية، يستحق أن يُقرأ بتأمل ويُعاد النظر فيه مرات ومرات.
التقييم: (10/10).