عشرون عامًا من الوطن

الوطن.. استوقفتني تلك الكلمة كثيرًا حينما بدأت في قراءة العمل، حتى أنِّي أغلقته وجلستُ أُفكر فيما تحمله تلك الكلمة في ثناياها من معنى، عندي يقين أن ليس للوطن تعريف مُحدد، حتى أنِّي نادرًا ما استخدم هذه الكلمة، لكنّي أعلم الكلمات المُرافقة لها: شهداء، تضحية، أمن، أمان، بلادي. “بلادي” بصوتٍ عذب يُغني ونردد خلفه كل صباح، رافعين رؤوسنا تجاه العَلَم، حتى إنني كثيرًا ما أُصبت بالدوار حينها.

ثم راودني شعور بالغرابة، وتساءلت هل هذا حقًا كل ما تعنيه؟ يالسذاجة أفكاري! هل هذا ما جنيته بعد كل تلك السنوات عن تعريف هذه الكلمة؟ أردت أن أعرف: ما هو حقًا معنى الوطن؟ الكم الهائل من المشاعر والآلام التي عرضها “غسان كنفاني” في هذا العمل أظنها حملت بعض الإجابة!

“أتعرفين ما هو الوطنُ يا صفيَّة؟ الوطن هو ألا يحدث ذلك كُله”.

الكلمة التي ترددت في ذهن “سعيد” لمُدة عشرين عامًا! تمثلت في ذكرى عالقةٍ في منزلهِ القديم، في الدَّرجِ، في خلدون، في الشوارعِ، في حيفا. تلك الذكرى جعلتهُ يشُد الرحال من جديد برفقة زوجته صفيَّة إلى حيفا -مَوطنُ الذكريات-، بعد أن أعاد الاحتلال فتحها للمواطنين ليُظهروا كرمهم -الزائف- كمن يسرق لعبة طفل، ثم يُعيدها ويتربص به من بعيد.

لم يعرف سعيد ولا حتى صفيَّة ما الذي دفعهم للعودة! هل هي رائحةُ البحر؟ أم بوابةُ منْدَلبوم التي هدمتها الجرارات؟ أم ذكرى منزلهم القديم؟ أم خلدون! خلدون طفلهم الأول.. ألمُ الفقد الذي لطالما عايشاه، أو ذكرى الحرب التي لطالما راودت كليهما.

أدرك سعيد المعنى بعد عشرين عامًا من الركض خلف الذكريات، والتي هي أكثرُ من ريشة طاووسٍ، أكثرُ من ولدٍ، أكثرُ من خرابيش قلم رصاصٍ على جِدار السُلم. الوطن ليس الماضي فقط كما أعتقد هو وصفيَّة، الوطن كما هو بالنسبة لخالد.. هو المُستقبل، وهكذا أراد الكاتب أن يُرينا الافتراق من خلال شخصيَّة خالد الذي لم يتساءل أبدًا عن معنى الوطن، لكنه أراد أن يحمل السلاح. عشراتُ الجنود مثل خالد لا تستوقفهم الدموع، ففي النهاية جزءنا في القصة هو معرفة الحقيقة؛ لذا أُرشح لكم هذا العمل بما فيه من أحداث واقعيَّة وملموسة، وقصة من آلاف القصص التي نراها كل يوم.

“غسان كنفاني” الروائي والمُناضل، والذي يُعتبر من أشهر الكُتاب في القرنِ العشرين، والذي عودنَّا على “أدب الرفض” استطاع بكتابته لهذه الرواية أن يَرسُم الوعي الذي بدأ يتبلور بعد(1967)، ويَرسُم الوطن من خلال رحلة عودة سعيد إلى حَيفا، استطاع أن يُجسد معنى الألم.. ألم الفقد، فقد الهوية، الوطن والمنزل.

لامست من خلال لغته البسيطة جدران المنزل، وقمت بعدِّ ريشات الطاووس في المزهريَّة مع سعيد في كل مرة في مُحاولة مني لفهم شعوره، ذلك الشعور بالغرابة الذي وصفه الكاتب بكل سلاسة. كان يشعر بأنه هنا في المنزل وأخيرًا، لكنه ليس بالمنزل حقًا! هو في حيفا التي يعرفها حق المعرفة، لكنها تنكره. شَعَرتُ بأمومة صفية، وخوف ميريام، وشجاعة خالد. كتلة لا متناهية من المشاعر استطاع الكاتب أن يدمجها معًا بسلاسة في لوحة مُعبرة، لوحة تحمل بداخلها المعنى الحقيقي للوطن.

– التقييم: (10/10).

Previous Article

الفلسفة بلغة العالم

Next Article

رحلة ضائعة الوجهة

Write a Comment

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا

اشترك في النشرة الإخبارية عبر البريد الإلكتروني للحصول على أحدث المنشورات التي يتم تسليمها مباشرة إلى بريدك الإلكتروني.
Pure inspiration, zero spam ✨