كانت الكاميرا، بوصف فاطمة، “بندقيتها” التي ترفعها أمام العالم لتحمي نفسها، أو لترد عليه تعاطفه الزائف.
قالت: “نحن قادرون على الوقوف من دونهم، لا نحتاج أن نضع يدنا على كتف أحد”.
كانت بطاقة الذاكرة ذخيرتها، ووقفتها أمام الحدث توثّقه، هي ما آمنت به كرسالةٍ في الأرض.
فاطمة حسونة، (24) عامًا، عرفت فيهم حقيقة الأمر: مصورة، وكاتبة، وفاقدة لكل أهلها، (11) فردًا صعدوا بضربة واحدة.
حاصلة على شهادة في الوسائط المتعددة من الكلية الجامعية للعلوم التطبيقية، ومؤخرًا.. شهيدة!
على صورةٍ لها، كتبت:
“فقدتُ أحد عشر فردًا من عائلتي، أعز ما عندي والله، لكن لا شيء يمكنه أن يمنعني أن أتوقف.
أخرجُ إلى الشارع كل يوم، بلا وجهة، أريد أن يرى العالم فقط ما أراه.
ألتقطُ ما يؤرخ هذه الفترة من حياتي، ألتقطُ هذا التاريخ الذي ربما يسمع عنه أبنائي، وربما لا.”
وثقت فاطمة لحظات الصعود والاستشهاد، لحظات الخِسة والهوان، ولحظات العودة للديار والأمل،
وكتبت مع كل صورةٍ رسالة دقت بها أبواب ساكني العالم، وسألت مرة، مع صورة لطفل يبحث عن شربة ماء بين الخيام البيضاء:
“أفكر كثيرًا: ما الذي سيتذكره الأطفال عن طفولتهم؟”
قبل أن تصعد، شاركت في فيلمٍ وثائقي عنوانه: “ضع روحك على كفّ وامشِ”،
وهذا ما فعلته فاطمة من الأيام الأولى؛
أمضت شهورًا توثق الغارات، والمنازل المدمرة، وألم النزوح، وضحك الأطفال في أعياد الحرب.
فعلت هذا وهي على يقينٍ أن هذا واجب، وهو ما عليها وبين يديها.
فعلته بكل إشراق، كما وصفتها مخرجة الفيلم:
“كانت شخصية مليئة بالإشراق والضوء، تتمتع بابتسامةٍ ساحرة، وتحمل تفاؤلًا طبيعيًا في قلبها”.
طلبت، من أجلها الذي لا بد منه، أن يكون صاخبًا، صوته مسموع.
قالت: “أما على ذِكرِ الموت الذي لا بد منه، فأنا إذا مت، أريد موتًا مدويًّا.
لا أريدني في خبرٍ عاجل، ولا في رقمٍ مع مجموعة.
أريد موتًا يسمع به العالم، وأثرًا يظل مدى الدهر، وصورًا خالدة لا يدفنها الزمان ولا المكان”.
استُهدِفَت فاطمة وهي في منزل عائلتها في عْزّة، منزلها الذي بدأت منه توثيق كل شيء،
الذي عرف، كبقية جيرانه، الفقد والموت والصعود.
الذي نزل عليه الضوء الأبيض من السماء، وفُتحت أعلاه الأبواب، وسُيّرت منه النفوس الطاهرة لعالمٍ يليق بها.
منه مضت فاطمة، وتركت خلفها إمضاءً بأنها لم تقف مكتوفة الأيدي.
آمنت بالأجل، وأخرجت كاميرتها -السلاح الذي عرفته- وعبَّأته بالذخيرة، ووجَّهته نحو الحقيقة!
ألم تستحق فاطمة أن تخرج في جنازةٍ عسكرية؟
تليق بفعلها الذي لم يقدر عليه أناسُ العالم؟