عندما تشعر في حالات ضعفك أنك تحتاج للإلهام؛ فتسعى للنظر إلى شخصيةٍ أكبر منك وأكثر شأنًا -فقط لإعطائك نشوة السعي-، بالنسبة لي “مالكوم إكس” متربع على عرش اللائحة الشخصية التي أضعها أمامي ولا تفارقني، كمعرض هاتفي أو خلفية حاسوبي؛ أرى فيه نفسي، أرى فيه حلمي، أن أموت وأنا لا أقول إلا الحق، أن أمتلك القدرة على تغيير العالم، على الرغم من صعوبة تحقيق ما فعله، إلا أن مجرد التفكير في الأمور التي حققها؛ كفيلةٌ بجعله قدوة!
“ليتل لا يُرى”
باقعٌ في أعماق الغرب الأمريكي، تحديدًا في مدينة “أوماها” في ولاية نبراسكا، الطفل النحيف المُفعم بالطاقة “مالكوم ليتل” -قبل أن يُصبح مالكوم إكس الشهير-، وُلِد لأبٍ من أصولٍ إفريقيةٍ، مناضلٌ لهجرة السود، وعلى نفس الخطى كانت أمه ناشطة حقوقية.
كانت فترة العشرينيات في الولايات المتحدة تُعرف بـ”عصر النهضة الهارلمية” -سُميت بذلك نسبةً لانتشار ثقافة السود في الموسيقى والفنون والأدب-، ولكن على الرغم من ذلك انتشرت الجماعات العنصرية؛ أُجبرت عائلة مالكوم على تغيير محل إقامتها أكثر من مرة بسببِ المعاملة القاسية والتهديدات، وفي عام (1931) وُجِدَ والد مالكوم مقتولًا على سكة القطار -قالت الشرطة وقتها أنه حادث!-؛ فقامت أمه بتربية أطفالها الثمانية دون موردٍ للرزق، وفي عام (1939) دخلت الأم مصحةً للأمراض العقلية، فتجرّع الطفلُ الصغير وإخوته الثمانية مرارة فقد الأب والأم -معًا-، وتفرقوا على منازل الرعاية.
“أين أنا؟”
أدرك مالكوم أنه يستطيع إيقاف هذه المعاناة بدراسته، وكان يتطلع لدراسة القانون ولكنه دُمر نفسيًا بعد أن أخبره أحد المدرسين: “أن دراسةَ القانونِ هدفٌ غير واقعيٍ بالنسبةٍ لزنجيٍ!”. ترك المدرسة وهو حانق على البِيضِ، رافضًا لواقع اجتماعي اعتبره عنصريًا وظالمًا، وبعد خروجه من الثانوية عام (1940) رحل إلى “بوسطن” بولاية ماساشوستس مع أخته -غير الشقيقة- وعمل وقتها كماسح أحذية. انبهر بأضواء المدينة وانخرط في عالم الإجرام، حتى صدر بحقه حكمٌ بالسجن لمدة عشر سنوات!
خلال سنواته داخل السجن، انكبَّ على مطالعة الكتب الأدبية والقانونية والتاريخية؛ تعويضًا عمَّا فاته في دراسته، وتعَرَّف وقتها على منظمة “أمة الإسلام” إثر مراسلات مع إخوته.. كنصيحة أخيه فيلبيرت -في إحدى الرسائل-، ألا يدخن وألا يأكل لحم الخنزير، وأنه يتمنى إسلامه.
“إكس.. خطيب أمريكا”
خرج مالكوم من السجن وقد أصبح عضوًا نشطًا داخل المنظمة -أمة الإسلام- وغير لقبه إلى “إكس” عَلَمًا لعائلته بدلًا من لقب “ليتل” وفسر الاسم قائلًا: “إن إكس ترمز لما كنت عليه وما قد أصبحت، كما يعني في الرياضيات المجهول وغير معلوم الأصل”. استطاع -بما امتَلَكَ من جاذبيةٍ وحماس- اجتذاب آلاف السود الأميركيين إلى منظمة أمة الإسلام، كبطل العالم في الملاكمة “كاسيوس كلاي” قبل أن يغير اسمه لمحمد علي.
وفي يونيو عام (1963) قاد إكس مسيرة “رالي الحرية” في منطقة “هارلم” بنيويورك، اُعتبرت المسيرة من أضخم فعاليات حركة الحقوق المدنية بأميركا؛ حتى صنفته صحيفة “نيويورك تايمز” ثاني أكثر خطيب متابعة في الولايات المتحدة.
“وجد ضالته”
ذهب مالكوم لأداء مناسك الحج عام (1964)، ورأى وقتها المسلمين بينهم المساواة والمحبة بمختلف الأعراق وبدون أي تمييز، أدرك وقتها ضلال مذهب منظمة “أمة الإسلام”، التي كانت ترى أن السود هم المُصْطَفوْن على العالمين، وأن الرجل الأسمر أفضل من الرجل الأبيض! وبعد أن قضى بمكة اثني عشر يومًا، تخلص مالكوم من عنصريته الأمريكية نهائيًا.
وبعث رسالة لزوجته مفادها: “عزيزتي باتي، ربما لن تُصدقي ما سأكتبه لك في هذه الرسالة.. فأنا الآن فى “مكة” أُصلي بجانب رجلٍ أبيض خلف رجلٍ أسود، وأكل من الطبق الذى يأكل منه رجلٌ بعينين زرقاوين، وأشربُ من الكأس نفسها التى شرب منها شيخٌ عربيٌ ببشرةٍ فاتحةٍ؛ لقد أدركتُ الآن وأنا فى رحابِ هذه المدينةِ المقدسةِ، بأن جميع مشاكل أمريكا العنصرية لا يُمكن أن تُحل إلا بتعاليم الإسلام”.
أعلن براءته من مبادئ حركة “أمة الإسلام” وغيّر اسمه إلى “الحاج مالك الشباز”، وحاول إقناع “إليجا محمد”، زعيم منظمة أمة الإسلام، بأخطائه بل ودعاه لزيارة الكعبة؛ ولكنه غضب بشدةٍ واعتبره منشقًا عن الحركة وطرده منها، فشّكل مالك الشباز -مالكوم إكس سابقًا- منظمة “المسجد الإسلامي” لمتابعة نشاطه الحقوقي، وبنفس الحماس السابق المعهود عنه أخذ مالكوم في دعوة الناس كافةً، وبدأت دعوته تخرج من دائرة السود الأميركيين لتتوجه إلى مختلف أعراق المجتمع الأميركي؛ حتى اشتعلت الفتنة بينه وبين إليجا!
“زمن الاستشهاد”
وصلت لمالكوم الكثير من التهديدات، وقال في أوج هذه الأزمة: “أنا الآن أعيش زمن الاستشهاد فإذا حدث ومت؛ فإنني سأموت شهيد الأُخُوَّة”. وفي الحادي والعشرين من فبراير (1965) الموافق (18) شوال (1384هـ) كان واقفًا على منبره يلقي خطابه، أمطره ثلاثة مسلحين من منظمة “أمة الإسلام” بوابلٍ من النيران؛ فأردوه قتيلًا.. وأُصيب وقتها بست عشرة رصاصةً في صدره.
باقعٌ في مقبرة “فرنكليف” بنيويورك، تاركٌ وراءه مسيرةً من قول الحق والدفاع عن العيش بكرامةٍ وإقامة العدل. كم أتمنى يا مالكوم.. يا شباز أنت وكل محطاتك التي مررت بها، أن تكون موجودًا الآن في ظل الأحداث الراهنة!