مِن رملة الأنجب إلى رحابة الشعر

“كان قلبي معلقًا بين مخالب طائرٍ جارحٍ محمومٍ بالسياحات في الأعالي… وكلما حطَّ ليستريح نفرته الدهشة بزياراتها المباغتة! وانفتحت مسالك الأفق أمام المعرفة المُرَّة والغربة الفسيحة”.

كانت تلك الكلمات كافيةً لتُعبر عن رحلته المليئة بزيارات الدهشة، والتي كانت جزءًا لا يتجزأ من تكوينه.

“هكذا أصبحتُ مولودًا من امرأتين، تقاسمتا قلبي وخيمتا بظلهما الدافئ وحنانهما الفياض على طفولتي الباكرة”

هاربًا من لعنة الموت المُلازمة لإخوته، وُلد “محمد عفيفي مطر” بعام (1935)، وذلك في قرية “رملة الأنجب” التابعة لمركز أشمون بالمنوفيَّة، كانت عائلته من مساتير الفلاحين -أي المُتمتعون بالستر والاكتفاء- لكن حظها لم يكن وفيرًا؛ فقد عصف الموت كثيرًا بمنزلهم وأخذ (3) أخوة قبله و(4) بعده! فما كان من والدته إلا أن تُجاهد ليُفلت من تلك اللعنة وتبيعه لامرأة فيكون ابنها بالبيع والتبني، وكان لتلك التجربة أثرٌ عميق على نظرته المستقبليَّة للحياة والموت. تخرَّج من كليَّة الآداب بعين شمس بعد دراسته للفلسفة وعمل مدرسًا، لكنه لم يتخلَّ عن حبه للقرية والزراعة فكان يزرع أرضه حتى أعياه المرض.

بدأ مسيرته الشعريَّة في خمسينات القرن الماضي ومن قريته في مجلة “سنابل”، وبعد عددها الثاني نال رئاسة التحرير! استمر في الكتابة والتحرير لسنواتٍ حتى أصبحت المجلة إحدى أهم المجلات الثقافيَّة حينها، لكن صُودرت المجلة في مطلع السبعينات، عقب مصادرتها بدأ يتردد على القاهرة بشكلٍ مستمر، لكنه لم يقوَ على الإقامة بها فكان يقضي يومين بها ويُكمل أسبوعه في قريته. تجمهر حوله الشعراء حتى صار شاعر الحداثة الأول.. حتى أنهم أصدروا ملفًا عن ريادته لشعر الحداثة المصري في مجلة “الشباب” احتفالًا ببلوغه الأربعين! غادر مصر عام (1976) ليعود مدرسًا إلى جانب بعض الكتابات بمجلة “الأقلام” العراقيَّة، ولم يستطع العودة إلى مصر أو حتى نشر كتاباته إلا بعد عشر سنواتٍ لظروفٍ سياسيَّة.

“لفائفهم.. تراب الظهيرة والزيت فوق الجباه

وشيء بأوصالهم يتنفس إعياءً وتعبًا، وطريقٌ تموت على جانبيه الظلال.. يطول ويقصر حتى ارتموا بالوصيد!”

نالت أعماله الشهرة لتحليها بالعمق الفلسفي والرمزيَّة، لكن أكثر ما ميزه ديوان “يتحدث الطمي”، تلك القصائد المُشبعة بطقوس الفلاحة وتقديس العمل، رائحة الطمي وشعائر الحرث، المملوءة بتفاصيل القرية من خرافة واعتقادات واهية، حتى أنه ألحق بالديوان عنوانًا إضافيًا وهو: قصائد من الخرافة الشعبيَّة!

لم تخلُ بقيَّة دواوينه من تجسيد الحياة الريفيَّة ورؤيتها بهيئةٍ شاملة، فقد استلهم من الطقوس المحليَّة في ديوانه “الجوع والقمر”، وأضاف إليها جزءًا من الرؤية العربيَّة لتخرج لنا رؤية مطر الفريدة. توالت إبداعاته فلم يُقدم (14) ديوانًا شعريًا فقط، فخطَّ قلمه بعض الأعمال في أدب الطفل وقليلًا من المقالات النقدية، ثم وثَّق كل هذا بإصدار سيرةٍ ذاتيَّة تربط بين تجربته الشخصيَّة وبين تشكيل رؤيته الشعريَّة والفلسفيَّة. حاز مطر على العديد من الجوائز منها: جائزة الدولة التشجيعيَّة عام (1989)، جائزة سلطان العويس عام (1999) وجائزة الدولة التقديريَّة عام (2006).

“شاعرٌ عبر الأجيال” هكذا وصفه أحد النقاد؛ لعمق وتشابك تجربته الشعريَّة تارةً يكتب شعرًا مغلفًا بفلسفة إغريقيَّة، وتارةً يستخدم تراجيديات القرية المصريَّة، وبعدما شكَّلت أعماله علامة فارقة في التجربة الشعريَّة الحديثة توفاه الله يوم (28/6/2010) مُتأثرًا بمرضه، ليُدفن في مسقط رأسه تاركًا شعرًا يصلح لكل جيل.

Previous Article

الخير الباقي أثره

Next Article

عبد الرحمن الشرقاوي.. صوت الفلاحين

Write a Comment

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا

اشترك في النشرة الإخبارية عبر البريد الإلكتروني للحصول على أحدث المنشورات التي يتم تسليمها مباشرة إلى بريدك الإلكتروني.
Pure inspiration, zero spam ✨