للتاريخ سحرٌ خاص لا يعرفه سوى محبيه، خُصوصًا أولئك الذين تُمكِّنهم مُخيِّلتهم من تصوُّر أبسط التفاصيل عن تلك الأزمنة البعيدة.
وكمُحِبةٍ للتاريخ والحَكي جذبني غلافها -ذلك الذي يُشبه البرديَّة القديمة- عندما وقعت عيناي عليه للمرةِ الأولى مع صديقةٍ لي في أحد اجتماعات إنسايدر، وقد كُتِبَ عليه “أوراق شمعون المصري” فأخذت تتردد صورته على ذهني من فترةٍ لأخرى، مُلحةً عليَّ بالقراءة ومثيرةً عدة تساؤلات: تُرى من هو شمعون صاحب الاسم اليهودي؟ وما قصته؟ ولماذا يُكنَّى بالمصري؟
أوراق شمعون المصري هي رواية للكاتب والطبيب المصري/ أسامة عبد الرؤوف الشاذلي، وتُعد الرواية -الصادرة عام (2021) عن دار الرواق للنشر والتوزيع- أولى أعماله الروائيَّة، والعجيب أنَّك مع القراءة يستحيل أنْ تتصور أنَّ هذه الرواية محبوكة الجوانب هى الأولى لصاحبها!
تدور أحداث الرواية حول حياة بني إسرائيل في أرض سيناء وما كُتِبَ عليهم من تِيهٍ فيها، وذلك من خلال تسجيلات شخصيَّة متخيلة أسماها الكاتب شمعون بن زخاري النجار -المعروف بشمعون المصري نسبةً لأمه المصريَّة، وربما لاحتفاظه بقبعة جندي مصري- لحياته المُتشابكة مع حياة قومه -باعتباره فرد منهم-. تبدأ الرواية بمشهد النهاية ومُشارفة بني إسرائيل على دخول الأرض المُقدسة، ثم يأخذنا شمعون بالزمن إلى الوراء لنشهد معه يوم الخروج ومعجزة شق اليَم، وما مر بقومه من أحداث جِسام في سيناء، كانت عاقبتها الضياع (40) سنة قبل الوصول إلى غايتهم -الأرض المُقدَّسة-، وهنا يغضب شمعون من التِيه الذي أصابه وأهله بذنب قومه، فيُقرِّر الهرب ليُكمل الطريق وحده، فتأخذه الصحراء في بطونها لتُريه كيف يكون عذابها، إلى أن تُقرِّر الرأفة بحاله فتُلقي به إلى شيخ من بني إسماعيل، يتنقل معه من مكانٍ لآخر إلى أن يستقر به المقام في مكة وهناك تتغيَّر حياته تمامًا.
في مكة لم تكن الأحداث مع بني إسماعيل أقل أهميَّة وتشويقًا منها بصحبة قوم شمعون، فهناك سنرى نوعًا آخر من الحياة مليء بالأسواق والتجارة، سنرى كيف تتبدَّل الحياة عند خروج رجال القبائل وسادتهم في رحلتي الشتاء والصيف، والأهم من ذلك أننا سنشهد الخِلاف الدائر بين قبيلتي جُرهم وخُزاعة على الرفادة والسقايَّة، وما الذي سيؤول إليه هذا الخِلاف، سنرى بداية دخول الأصنام إلى مكة، وكيف سيفتن الشيطان أهل مكة مثلما فتن بني إسرائيل من قبل.
كانت شخصيَّة الشيخ/ عابر من أكثر الشخصيَّات التي أنست بصحبتها، وذلك لما فيها من حكمة -حتى في صمته- وتفهُّم وتقبُّل للآخر مهما كانت قبيلته أو ديانته، ولم نكن نحن فقط من أنسنا به، وإنَّما أنس شمعون كذلك بصحبته، فبِه عَبَر من منازل التِيه إلى منازل اليقين، وأدرك أنَّ التِيه كان في ظاهره عقاب وإنَّما باطنه تأديب ورحمة، وأنَّه لا جدوى من أرض مُقدَّسة -مليئة بالعسل واللبن- وقلوب أهلها مُدنَّسة، فيكفيه فقط أن الله يسكن قلبه.
مع تأمل حال اللغة وطريقة الصياغة ستجد أن الأوراق كُتِبَتْ بلغة أدبيَّة راقية مُزينة بصور عذبة وعبارات تجعلك تستدعي ما قرأته من القرآن، فمثلًا مشهد البقرة وميت بني إسرائيل الذي شهد على قاتله، تجد نفسك تستدعي تلقائيًا قوله تعالى: ﴿فَقُلْنَا ٱضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ۚ كَذَٰلِكَ يُحْىِ ٱللَّهُ ٱلْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ وكذلك في مشهد عودة نبي الله موسى -عليه السلام- بالألواح ولقائه مع أخيه هارون، وغيرها من المشاهد. الورقة من أوراق شمعون تمثل فصلًا، فجاءت الرواية في (68) ورقة موزعة على (623) صفحة مليئة بالأحداث التى تجعلك تُؤجل أمر إغلاق الرواية وعمل شيء آخر. ربما ما سيُزعجك في الرواية النهاية المفتوحة لها والحيرة بين هل سيدخل شمعون الأرض المُقدَّسة مع قومه؟ أم ستأبى نفسه الدخول بعد وفاة نبي الله موسى فيلحق به؟
في النهاية أوراق شمعون المصري رحلة -بين الحقيقة والخيال- تُمثل حياة كاملة بما فيها من صداقة وإيخاء وحب وألم الفراق وفزعة الموت، رحلة تجعل من الصعب عليك العودة إلى واقعك بعدما اعتدت أصوات الأبواق وصوت الحادي، ونصبت خيامك للمبيت وصنعت أدواتك بنفسك، ورأيت ما لم ترَ من قبل.
– التقييم:(9.5/10).