رائد الحوسبة العربيَّة

دلفت التكنولوجيا لعالم الشرق كبحرٍ بديع العوالم، وكان هذا إنجاز الغرب الإعجازي الذي لن يستطيع أحد أن يسبقه، هذا البحر العميق الذي انجرفت العالم إلى أعماقه وكادوا أن يضلوا طريق الشاطئ إلى هويتهم، وكان لابد من حلقة وصلٍ بين الأصالة والحداثة، في أن تثبت بصمة ناطقة للهويَّة العربيَّة في عالم الحوسبة الصامت؛ ليُبنى جسرٌ بين التقنيَّة والهويَّة على يد “محمد الشارخ”.

“بذور صنعت الحكاية”

سُطِرت أول صفحات قصة الشارخ منذ ولادته عام (1942) لأسرة عربيَّة بالكويت. كانت عائلته هي البداية في غرس شغفٍ للغة الضادِ في قلبه، فنما ضمن أسرة مُحبة للشعر العربي، تتغنى بقصائده. قرر في دراسته خوض شغفٍ جديد تجاه الاقتصاد، فحصل على بكالوريوس الاقتصاد والعلوم السياسيَّة من جامعة القاهرة، وعلى ماجستير في التنميَّة الاقتصاديَّة من جامعة ويليامز الأمريكيَّة، ثم تقلَّد عدة مناصب منها: نائب المدير العام بصندوق الكويت لتنميَّة الاقتصاديات العربيَّة، ونائب المدير التنفيذي للبنك الدولي (l.B.R.D) بواشنطن، ثم رئيس مجلس إدارة بنك الكويت الصناعي، ونائبًا لرئيس جمعيَّة الاقتصاديين العرب.

“ولادة حلم صخر”

بعد رؤية الشارخ للحاسوب لأول مرة، انبهر بتقنياته وبما يُمكنه أن يُقدِّم من تطور لعلومٍ متنوعة، ولكن مع ذلك استاء من عدم تقديمه لتعريب مُتكامل للغة العربيَّة، وهنا وجد صخرة المستقبل التي أراد نقش اسمه عليها، فأسس “الشركة العالميَّة للإلكترونيات”، وكان مساهمًا في شركة “أتاري” لتعريب الألعاب. ثم بدأ طموحه في التطلع للملمة شتات شغفه في جميع مجالات الحياة وصبهم في قالبٍ واحد، فاقترض مبلغ ثلاثة آلاف دينار وحصل من البنك على تسهيلات بـ(15) ألف دينار؛ ليُنشئ شركة صخر لبرامج الحاسب عام (1982)، ويقوم بتعريب الحاسوب بإدخال اللغة العربيَّة بقواعدها مستعينًا بعلماء عرب في علم رقمنة اللغة وعلم اللسانيَّات الرياضيَّة، ليكون حاسوب صخر هو أول حاسوب عربي مُستخدِم للغة العربيَّة بنظام خاص من ميكروسوفت (MSX). ثم أنشئت الشركة العديد من البرامج العربيَّة بعد أن طورت جيلًا جديدًا من تقنيات المُعالجة الطبيعيَّة للغة العربيَّة (NLP)، ومن هذه البرامج: برنامج القرآن الكريم، المدقق الآلي، الناطق الآلي، الترجمة من العربيَّة وإليها، وإدخال كتب الحديث التسع، أيضًا إنشاء أكثر من (90) برنامج تعليمي وتثقيفي، وبرامج برمجيَّة للناشئين باللغة العربيَّة. ولإنجازات الشركة الغير مسبوقة حصلت على ثلاث براءات اختراع من هيئة الاختراعات الأمريكيَّة في: التعرف الضوئي على الحروف، الترجمة الآليَّة، والنطق العربي.

“في مواجهة الرياح”

واجهت شركة صخر أول تحدٍ لها من نقص المُساهمات الخارجيَّة، وقد كانت المغامرة التي يخوضها الشارخ بدون دراسة كافية لمدى المكاسب تُخيف رجال الأعمال الآخرين، ثم بعد إنشائها كان لازال الخوف يحكمها من رفض المؤسسة الدينيَّة السعوديَّة وقتئذ لبرنامجي “القرآن الكريم والحديث”، وجاء الشيخ عبد العزيز بن باز -مفتي عام المملكة العربيَّة السعوديَّة سابقًا- ليُوافق على هذا المشروع المبهر.

بعام (1990) غزت العراق الكويت، لتتوقف شركة صخر عن العمل وتبدأ في نقل مقرها إلى مصر، وعند استقرار بعض الأوضاع قرر الشارخ تنفيذ اتفاقيته مع شركة مايكروسوفت لتعريب نظام (Windows)، ويسافر المدير التنفيذي للشركة ونائبه لإتمام الاتفاقيَّة، لتُخل شركة ميكروسوفت بالاتفاقيَّة وتقوم باستقطاب عقول صخر وتوظيفهم، مما دفع الشارخ لرفع الدعاوى القضائيَّة على الشركة ولكن خسر القضية بسبب [بين] رأسماليَّة المجتمع الغربي. كل تلك التحديات جعلت الشركة تتوقف عن إنتاج حاسوب صخر، واكتفت بإصدار البرامج العربيَّة.

“رحيل الجسد وخلود الأثر”

أثر محمد الشارخ على الأمة العربيَّة بتعزيز هويتها وثقافتها في العالم أجمع، وأسس معاهد تعليم برمجة الحاسب؛ لذا استحق الكثير من الجوائز.. فقد مُنح: جائزة الملك فيصل العالميَّة لخدمة الإسلام، جائزة الدولة التقديريَّة بالكويت، وجائزة صاحب الرؤية الإلكترونيَّة وغيرهم الكثير.

رحل الشارخ في مارس عام (2024) عن عمر يناهز (82) عام، تاركًا بصمة خالدة ومصدر إلهام لأمة كاملة تظن أن المستحيل ممكن، فلم تكن مجرد قصةٍ تُروى بل حلم يُورث في القلوب.

Previous Article

عاشق الحقيقة الحزين

Next Article

رسومات كاريكاتوريَّة وكلمات ضد الديكتاتوريَّة

Write a Comment

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا

اشترك في النشرة الإخبارية عبر البريد الإلكتروني للحصول على أحدث المنشورات التي يتم تسليمها مباشرة إلى بريدك الإلكتروني.
Pure inspiration, zero spam ✨