كان هو الوحيد من له الحق في تحقيق أحلامه التي نسجها من خيوط التمني وهو صغير دونًا عن إخوته اللواتي حُكم علىٰ أحلامهنَّ أن تبقىٰ أسيرة الورق، بالرغم مِن ذلك تضاعفت قسوة والده عليه أكثر مِن أخوته؛ وأول دليل أنه سماهُ “مُصعَب” آملًا أن يتحلىٰ بصفات هذا الاسم.. الاسم الذي عان منه كثيرًا وهو صغير إلىٰ أن قال له أحد المعلمين أنه اسم مصعب بن الزبير -واحد من أبطال الإسلام-، لكن ما زال المعظم يحكم علىٰ طبعه من خلال اسمه.
الأخ الوحيد لخمس فتيات فحُكِمَ عليه سماع جملة “أنتَ الرَّجُل” للأبد، تُقال له منذ صغره وبناءً عليها يجب عليه ألا يبكي تحت أي ظرف، وإن كانت مميزات تلك الجملة تكثر عن عيوبها؛ فهو الوحيد من بين إخوته سُمِح له أن يتعلم ويسافر القاهرة؛ ليتحرر من قيود الريف، ويرىٰ عالم آخر غير مُقتصر علىٰ الأراض الزراعية والبهائم.. عالم بهِ سيارات لا تتوقف عن السير وناطحات سحاب، وبشر لا ينامون بعد العشاء وشوارع مُضيئة ليلًا مثل النهار.
وكانت الإجازات أتعس الأوقات بالنسبة له لأنه سيعود لقريته وستُمارس عليه أحكام أنتَ رَجُل كما يجب أن تكون، يرتدي عبائته التي أعطاها له والده وطلب منه ألا يتخلىٰ عنها ولا يخلعها ومع ذلك كان لا يرتديها إلا لو سمع خطوات والده قادمة من بعيد أو تحذره إحدىٰ إخوته، وكان أبوه يعرف أنه يكره ارتدائها ولا يرتديها إلا لو جاء، ومُصعب يعرف ذلك، لكن ثمة غموض بينهم. غالبًا يجبره والده أن يعمل بالأرض معه فيتذمر ويقول في نفسه كيف لطالب سياسة واقتصاد -اقترب من أن يكون سفيرًا- أن يعمل مثل العامة! يقولها سرًا أو عندما يشكو لأمه فتواسيه بكلمة “معلش أنتَ الراجل” لكن لا يجرؤ أن يقولها جهرًا أمام والده، كان يتمنىٰ أن يستعين بهِ أبوه ليساعده في إدارة أمور تجارته لكن قلَّما ما كان يصطحبه لهناك أو يستعين بهِ في أمرٍ ما، وكانت حُجته المستمرة: “دي أمور صعبة أنتَ مش قدها”. أهم ما يخرج بهِ من هذه الإجازة هو إنه يغترف من مال أبيه ما يكفيه لقضاء دراسته والتَّنزه مع زملائه بالقاهرة دون أي عائق، فيعود مصطحب معه المال، وحقيبته دون العبائة التي يكرهها، ووصية أمه له أن يعتني بنفسه جيدًا ويرتدي ثقيل ويأكل وإن احتاج مال يقول، وربما تعطيه نقود دون أن يرىٰ والده لكن تلفت انتباه إخوته البنات فيهمسوا في أذان بعضهن، ثم يلتفن حوله ويطلبن منه هدايا وكان في معظم الإجازات لا يحضر لهنَّ شيء متحججًا أن المال لا يكفي، أما عن والده جالس علىٰ الديوان الخشبي يُبدل خرز السُبحة بأنامله فيقترب مُصعَب منه ويقبل يده، ويقول له والده: “خُذ بالك من نفسك خليك راجل”.
يُعجبه ضوضاء المدينة وازدحامها، ويخنقه هدوء الريف وظلام ليله، يعود للقاهرة فيتجدد كرهه لقريته أضعافًا فهُنا يتحمل مسؤولية نفسه فقط، لا يتلقىٰ أوامر من أحد فقط مهام دراسته وينفذها بكل حُب، لذلك كانت واحدة من أهم أحلامه هي أنه سيعمل ويجتهد وينتقل هو وعائلته إلىٰ أحضان القاهرة، فرحَّب أخوته بهذا القرار.. وينظر له أبوه بأطراف عينه غاضبًا ويصمت.
في يوم انتهاء آخر امتحان له، فتح هاتفه منتظرًا أمه تتصل بهِ كعادتها فوجد محاولات اتصال به عديدة من إخوته، وعندما استجاب رد عليه صوت يبكي حاول أن يفهم لكن البُكاء غلب علىٰ المُكالمة.
أسرع بكل قوته والتحق بأول سيارة ليعود للقرية عقله يفكر ما الأمر؟ أماتت أمه؟ يحاول أن يقاوم كل الاحتمالات التي يفرضها الواقع عليه، ثلاث ساعات سفر عقله أسفل سيوف الاحتمالات.
البيت غَير كل مرة.. بالخارج رجال يقفون يضربون كفًا علىٰ كف، وبالداخل نساء متخفية بالثوب الأسود يخمشن علىٰ خدودهن ويرفعن أصواتهن بالنواحِ والبكاء. سمع صوت أمه تناديه، كانت تجلس وحولها بناتها يبكين بكاء مرير، فركض نحوها جلس تحت قدمها اطمئن عليها تأكد أنها حية، ثم التفت حوله وجد أباه مستلقي علىٰ ديوانه الخشبي كعادته لكن هذه المرة نائم ولن يستيقظ، والسُبحة وحبات الخرز مُبعثرة حوله، حاول أن يوقظه، يهمس في أذنيه، يعلي صوته، يطلب طبيبًا لكن دون جدوىٰ.
وجد نفسه يحمل والده يأخذه للمسجد لا العكس، يصلي الجنازة، ثم يحمله ويركض للمقابر يتركه هناك ويعود وحيدًا. البيت محاوط بالسواد والحزن يحتله، كل الظروف تدعو للبكاء لكن لا مقر له وسط عبارات تتساقط عليه باستمرار “أنت الراجل لأخواتك، أنت راجلهم …إلخ”، وهكذا أقوال لا تنتهي. الوقت الوحيد الذي يستطيع البكاء فيه عندما يخلد للنوم مع وسادته فتتحمله ويتحملها، فأمام إخوته عليه أن يتماسك وأمام الناس لا يصح.
كثَيِبُ من الهموم تُحركها رياح القدر، ثم تلقيها أسفل قدمه فوقه مهام يجب أن تُنفذ، خلفه بيت مائل ووهو عموده، أمامه مستقبل يكاد أن ينهار، فوقع علىٰ عاتقه تجارة والده والاعتناء بأخوته مقابل دراسته، وقع عليه مهمة اختيار شاقة أما التخلي عن أحلامه أو يكون أناني وليس راجل.
خرج ليلة اليوم الرابع لقبر والده جلس ليتحدث معه.. لماذا حُكِم على دموعنا أن تبقى أسيرة العيون؟ هل البكاء جريمة؟
“السلام عليك يا أبي ربما تكون هذه المرة الوحيدة التي أتحدث معك فيها دون خوف من رد فعلك، ربما تسمع في كلماتي هذه نغمة من العتاب لكنها ليس عمدًا، اليوم أن أمارس جملتك، التي طالما طلت تقولها لي أنت وأمي -أنت راجل-“.
هُنا أجْهَشَ في البكاء، فهدأ نحيبه شيخ دخل عليه وبدأ في ترتيل آيات من القرآن: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ …}
وما أن انتهىٰ الشيخ سأله عن حاله، ثم نصحه أن يبقىٰ مع إخوته ويعمل لأجلهن حتىٰ يتزوجن ويكون عمود للبيت لا يميل ولا ينحني؛ لأنه الراجل.
عاد إلى بيته ارتدى عبائة، والده حاول أن يواسيهم ويشعرهم بأنه محل والده، فضمته أمه وأخوته لحضنها وبكوا جميعًا.