زيتونة هيا

بعدما سلمت علىٰ كل المفقودين، قالت لمرح: “هلأ وينها الزيتونات؟”

حفرت جانب الصخرة المُعنونة، وغرست النوىٰ، ثم غطت بالتراب، ثم سقت بالماء، وأمسكت حصوة وخدشت على الحجر.

كان مِشوَار السقاية أمتعهم إلىٰ ريما، رغم طريقه المُلغم بكل ماضٍ، تمر بما كانت مدرستها، وما كان مشفى، وتقرأ كل ذكرى على ركام الشوارع. ها هم! عشرة أصابع يجتمعنَ، تحتضن بيدها اليمنى يد “مرح”.. صغيرة العائلة، وباليد الأخرى الإناء.. مهمتهم الضرورية. فرغ طريقهم من الحياة، ولكنَّ ريما تُذكره بروحه الطيب. كانت تحكي لأختها كل ما حملته الأماكن هُنا، علىٰ فصولٍ متقطعة كانت تنقل لبنت الأيام المرفهة كل ربيعٍ مر عليها لم يخضر فيه أمل!

اختلست مرح كبشة زيتون من خَيْمَة عمتها في جيبها، وضمت بيدها ما استطاعت أن تحمله، وهي تقضم أولىٰ الحبات رنمت: “شدوا بعضكم يا أهل فلسطين، شدوا بعضكم” بنغمة متقطعة كملتها أختها وهي تتمايل، ثم قطعت الأنشودة وهي تقول: “لا ترمي نواة الزيتونات.. بعرف شو بنعمل بيهم”.

وكان ما يقويها على مرورها بكل ما حمل لها معنًىٰ، أنها تنقل كل ما كان جميل لمَرح، فذكرت مرة أن الطائرات لم تكن كلها تحمل موتًا، بل كانوا يركضون وراء أصواتها وأول من يجدها في السماء، يطلق عليه “طيار بالفطرة” وكانت هَيَا طيارة بالفطرة.

هَيَا أختهما الأكبر، أشد من تحب ذكره في قصصها، كيف كانت تُزهر كزعفران أبيض، ولماذا أحبت طينتها كجميزة مرت بمئتي خريف على نفس الأرض. أشارت مرة إلى المشفى ورددت: “شهداء نعرف إنهم شهداء”، حكت أن هَيَا كانت تُغيث أناسٌ لم تعرفهم هنا، تجري على كل فاقد وتردد تلك التأكيدات، ومرة رأت أُمًا تنوح، ففتحت ذراعيها وحوت حزنها كأنها طاقم إسعاف خاص بمعالجة دموع الفاقدين.

لم تفهم مرح كل ما كان يُسرد عليها، ولكن في مرة ماضية مالت عليها أختها وقالت: “احنا مو نزعل من الله، احنا بنزعل علىٰ الوقت الكتير اللي بيمنعنا نشوف حبايبنا” فبكت دون إرادة وضمتها إليها ريما. وكان الفصل الخيالي بالنسبة لمرح ما ذُكر عن “البيت الكبير” عن حكايات هَيَا وريما بالأقصىٰ، كُرات الثلج التي ترامت هناك، وركضهما في الساحات تغيظان جنود الاحتلال، وضحكت ريما مرة وتذكرت أن هيا كانت تدرس جملة عبرية تريد أن تُخاطب بها الجنود هؤلاء، وكانت فما معناها: “شجر الزيتون عندنا، بتعرف كم عمره؟”

ولما بلغتا صنابير الماء، تركتا الإناء في دورهما، وشدت ريما أختها وقالت: “بِنروح نشوف هَيَا”. هيا عبد الله سالم -أحد أيام نوفمبر-.

بعدما سلمت على كل المفقودين، قالت لمرح: “هلأ وينها الزيتونات؟” وحفرت بجانب صخرة أختها، وغرست النوىٰ، ثم غطت بالتراب، ثم سقت بالماء، وأمسكت حصوة وخدشت على الحجر: “لدينا أشجارنا التي أكبر منهم، ونغرس اليوم نَوَيات جدد” ورحلتا.

القاهرة، تشرين الثاني (2023).

Previous Article

مأساة بعين روز

Next Article

ميلاد جديد لأم طوخ

Write a Comment

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا

اشترك في النشرة الإخبارية عبر البريد الإلكتروني للحصول على أحدث المنشورات التي يتم تسليمها مباشرة إلى بريدك الإلكتروني.
Pure inspiration, zero spam ✨