مراكز المساعدات.. ساحة الموت

بعدما اضطروا إلى شراء الطعام بالجرام، وبعدما مرضت معدتهم من المعلبات التي سرعان ما نفذت، ثم اتبعها جفاف صحون “التكيَّة”، صاح أطفاله الصغار في نفسٍ واحد: “جوعانين”، الكلمة ثقيلة على أذن والديهم.. يسمعونها فتفتح في قلوبهم ندبة! يعرفون أنها ليست لحظة جوع وتمر، فأجسام أطفالهم هزيلة وصوت بكائهم ضعيف، نسوا ضحكاتهم العفويَّة وشقاوتهم المُرهقة.

الأب يضطر إلى الخروج للمعركة تاركًا صرخات أطفاله للأم تتحملها وحدها، مع أنها تظل تطن في أذنه. الأسرة كلها تعرف خطورة الموقف؛ لكن ثمة ابتسامة نابعة عن أمل أشرقت على وجوههم، الفتيات أسرعن ليحضرن الطبق وبعض المياه؛ استعدادًا لاستقبال الطحين، حتى أصغرهم قال: “خبز!”، كانت هي الكلمة الوحيدة التي ينطقها أي جوعان، مع الكثير من مرادفات الحرب!

هذه المرة عزم ابنه الأكبر على أن يخرج معه؛ آملًا في أن يُحضر كيس طحين هو الآخر، فاستسلم والداه لطلبه. خرج هو ووالده بعد نظرة وداع ألقوها على الخيمة بما تضم، ساروا وسط حشد من المُجوَّعين، يبحثون عن شاحنات المساعدات -التي تقع على بعد كيلومترات- سيرًا على الأقدام، إما يعودون منتصرين معهم كأس الفوز -الطحين- أو لا تُكتب لهم العودة! قطعوا شوطًا طويلًا بأجسادهم الضعيفة، الوقود الوحيد الذي يُحرك الأب بكاء أبنائه جوعًا. كل همه أن يعود ومعه كيس طحين، سيتحمله وزنه رغم مشقة الطريق؛ لكن لن يتحمل أن يعود فارغ اليدين خائب الأمل.

أُرهِقَ ونفسه انقطع.. ليس لديه سوى كيسة ماء اشتراها كعتاد له في المعركة، ارتشف منها وأعطى الباقي لابنه. لمح على بعد أمتارٍ الشاحنات.. لكنها فارغة! والمساعدات تُرمَى في ساحة يُحيط بها تلال رمليَّة، غريزة البقاء تدفعه هو والمجوَّعين خلف التلال.. ينتظرون إشارة لتسلقها، عقله يُرسل إشعارًا مُستمرًا: “نفذت طاقتكم”؛ لكن صوت أبنائه يدق في رأسه فيتسلق ويصل إلى الساحة.. في نفس اللحظة تُحاوطه القذائف والرصاص العشوائي، ينجو من رصاصة وراء الأخرى، يطمئن على ابنه أنه في ظهره لم تمسه رصاصة، يركضون نحو المساعدات محاولين أن يظفروا بكيس طحين.

التقط الأب كيس واحتضنه بشدة.. اختل توازنه أثر اندفاع المجوَّعين، وقع فداس عليه المارة! سحبه ابنه بكل قوته، يقوم.. يستجمع قوته يحتضن الكيس كأنه وجد ابنًا ضائعًا، يخرجون من تل الرمال بعد معاناة؛ لكن يعود القصف مجددًا، تستهدف رصاصة قلب الأب فيسقط رغمًا عنه، يُبعد كيس الطحين عن نزيف دمه، يصرخ في وجه ابنه ويُحلفه: “خُذ الطحين وارجع لإخواتك يا قلب البابا”.

Previous Article

كم مرة نزحوا!

Next Article

علب الصفيح المدمرة

Write a Comment

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا

اشترك في النشرة الإخبارية عبر البريد الإلكتروني للحصول على أحدث المنشورات التي يتم تسليمها مباشرة إلى بريدك الإلكتروني.
Pure inspiration, zero spam ✨