لأن الكتب كثيرًا ما تتحكَّم في الأجواء وتصنع مناخًا خاصًا بموضوعاتها، وبعد مجموعة قراءاتٍ تنقَّلتُ فيها بين خيال كاتب وصراع آخر، بين سِيَر شعوب وانهيار أمم.. اخترت أن تكون قراءتي التالية هادئةً بعض الشيء، تُثمر في قلبي طمأنينةً وفي عقلي نفعًا؛ فوجدت في مكتبتي كتابًا يُناديني.. كتاب “نساء النبي” للدكتورة/ عائشة عبد الرحمن -بنت الشاطئ-.
بأسلوب أدبي تاريخي رصين.. قدَّمت الكاتبة نصًا بسيطًا وسلسًا عن زوجات النبي -ﷺ- اللائي شُرِّفن بلقب “أمهات المؤمنين”، ومعهن مارية القبطيَّة المصريَّة. ركزت جهدها في تصوير شخصياتهن كما بدت في البيت المحمدي، مع تمهيدٍ لحياتهن قبل دخولهن هذا البيت الطاهر، وتتبَّعت بشيء من الإيجاز ما جرى لهن بعده -ﷺ-.
في الباب الأول.. نقرأ عن محمد -ﷺ- الزوج والإنسان والنبي، وكيف كانت علاقته بنسائه تخضع أحيانًا لتوجيه سماوي صريح. أما الباب الثاني يأخذنا في رحلة طيبة بين سيرهن العطرة، على ترتيب دخولهن بيت النبوة.
ومع حديثها الممتع عن بيته -ﷺ- وأجواء الحياة المشتركة فيه، تحدثت أيضًا عن مكان البيت النبوي، فذكرت نبذة عن بيته في مكة، حيث عاش مع السيدة خديجة ناعمين بالألفة والاستقرار، ثم بيته في المدينة، حيث بُني المسجد النبوي ومن حوله تسع حجرات، أبوابها جميعًا تُفتَح على ساحة المسجد. حرصت الكاتبة كذلك على الرد على مزاعم المستشرقين، مثل: زواج السيدة عائشة وهي صغيرة السن، تعدد الزوجات، حادثة الإفك، وقدَّمت ردودًا موثقة من مصادر أصيلة وأمهات الكُتب.
قدَّمت الكاتبة زوجات النبي بأسلوب متقن يجعل القارئ يتعرَّف عليهن من جديد، فعرفتُ كيف كانت خديجة -رضي الله عنها- عوضًا جميلًا عمَّا قاساه النبي -ﷺ-، زوجته المحبة التي انفردت بمكانتها في قلبه الشريف، وظلت حيَّة في وجدانه حتى بعد دخول زوجات أخريات، أما عائشة -رضي الله عنها- فكانت أشدهن غيرة عليه -ﷺ-، وأكثرهن نضالًا للاستئثار بحبه، ما إن تلقى ضرائرها إلا وتقول لهن ما قاله لها -ﷺ-: “حبك يا عائشة في قلبي كالعروة الوثقى”، غير أن غيرتها كانت تقف عند حدود الدين والعدل! وكما تقول د. عائشة:
“سبحان الله! وما لها لا تغار مثلها على مثله؟”
علمت أن قبل عائشة تزوج -ﷺ- “سودة بنت زمعة”، المهاجرة الكبيرة التي مدَّ إليها يد الرحمة يسند شيخوختها، ويُهون عليها ما قاسته. وأن “حفصة” -رضي الله عنها- اُختِيرَت من بين زوجاته لتحفظ النسخة الأولى من المصحف الشريف. وأن “زينب بنت خزيمة” عُرفت بلقب “أم المساكين” لرحمتها ورقتها عليهم. أحببتُ صحبة “أم سلمة” العاقلة صاحبة الرأي السديد، التي كان لها رأي مسموع في مواطن كثيرة، منها صلح الحديبية وفتح مكة.
أما “زينب بنت جحش” فقد كانت أطولهن يدًا -أي أكثرهن تصدقًا-، وجويرية -رضي الله عنها- كانت أعظم امرأة بركة على قومها؛ إذ أُعتق بزواجها أهل مائة بيت من بني المصطلق -قبيلة عربيَّة-. قرأت عن “صفية” التي حظيت بدفاع النبي -ﷺ- عنها ورعايته لها، وعن “أم حبيبة” التي اختطفت فراش النبي -ﷺ- وطوته حين جلس عليه والدها المُشرك في دلالة وفاء وولاء، وعن “ميمونة” رضي الله عنها التي سماها النبي -ﷺ- بنفسه، وكان زواجه بها في مناسبة ميمونة مباركة، وكانت أكثر زوجاته وصالًا للرحم. عشتُ أيضًا مع “مارية القبطية” تفاصيل دخولها إلى البيت النبوي، وبشرى ولادتها لإبراهيم، وألم فقده، وختمت الكاتبة بوصيَّة النبي -ﷺ- لأهل مصر.
رافقني هذا الكتاب أيامًا قصيرة لكن لطيفة، أقرأه ليلًا قبل النوم، مستمتعة بحديثٍ متقن وبحثٍ جاد عن حياة النبي -ﷺ- في بيته، ومع زوجاته الكريمات. استأنستُ به وبما ضمَّ من أحاديثٍ شريفة، وربطٍ ذكي بين المواقف والآيات الكريمة التي نزلت فيها.
صدر الكتاب عن “دار المعارف”، ويقع في (270) صفحة، حرصت فيه الكاتبة على ذكر المراجع والمصادر بدقة علميَّة عالية.
طالما سمعتُ عن نساء النبي -ﷺ- وقرأتُ مقتطفاتٍ متفرقة عنهن؛ لكن هذا الكتاب كان اختيارًا موفقًا للتعمق في حياتهن العطرة في ظل رسول الله -ﷺ-، من أول دخولهن البيت وحتى اللحظات الأخيرة من حياتهن.
سلامٌ على نساء النبي -ﷺ- وأمهات المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن.