مأساة بعين روز

ما زلت أتذكر يوم اختارتني ديمة من المأوىٰ، كنت بحجم كف اليد ولا أعرف من العالم سوى القفص الضيق الذي وُلدت به، لكنّي ذُهلت أن العالم أوسع من حدود صندوقي الصغير.
عندما اصطحبتني ديمة للخارج رأيت الكثير من الأضواء إلى جانب مختلف الأصوات التى أزعجني علُّو أغلبِها، وحين وصلنا للمنزل بدأت تقدمني لكل فرد من أفراد عائلتها الصغيرة فوجدت الجميع ينادونني “روز”، عرفت أني قد أصبحت محببة لقلوبهم في مدة قصيرة، بالرغم من تصرفاتي الشقية، فكنت أحب اللعب بالخيوط، الجلوس بداخل الدواليب والعبث بأحذية الجميع؛ تلك كانت طريقتي للتعبير عن الحب.

كنت معتادة أن أُوقظ ديمة كلما شعرت بالملل. أنزع عنها الغطاء، ألعق وجهها حتى تستيقظ وتلاعبني، أشاركها في طعامها وأجلس على كتبها حتى تتركها وتنتبه لي.
كانت تأخذني معها كل فترة إلى مكان يشبه مأواي القديم، لكنه كان يختلف بأن الحيوانات دومًا تُعاني من مشكلة ما، وبدى أن مهمتها مساعدتهم حتى يعودوا جيدين؛ فهي تفحصهم وتطعمهم أشياء غريبة، وتلاعبهم أيضًا. لا أدري لمَ قد تهتم صديقتي بغيري! ولكن يبدو أنها لا تتحمل رؤية حيوان يشعر بالألم.. كذلك أنا.

أتذكر يوم مرضت ديمة بشدة، لم تطعمني فور استيقاظها ولم تلاعبني. كانت تبدو شاحبة لا تستطيع مفارقة السرير، وبهذا قد إنهار عالمي! لازمتها في الفراش حتى اختفت روحي المرحة، بل شعرت معها بالمرض حتى عادت إليها صحتها. هذا أبعد ما أتذكر: بيتٌ دافِئ، عائلة مُحبة، وروحٌ سعيدة، فلا أدري كيف وصلت إلى هنا!

استيقظت، وكعادتي جلست في انتظار جرعة الاهتمام الصباحية، لكن المنزل كان مكتظًا بوجوه لم أرها من قبل.
سمعتهم يتهامسون أن الليلة خطبة ديمة، جميعهم كانوا حولها: مَن تساعدها في ارتداء ملابس جميلة، مَن تمشط شعرها، ومَن تعبث في وجهها، لم يرُقني في كل ذلك غير ما ارتدته فقد تدلت منه خيوط صغيرة تشبه كرتي الصغيرة، لكن للأسف لم يتركوني ألمسه!

هي أيضًا لم تمنعهم، كانت مشغولة عني بشخص لم أتعرف على ملامحه من قبل؛ تجلس جواره مبتسمة، أما باقي الحضور فكانوا بين ضحكاتٍ وغناءٍ، بعضهم يحاول أن يلاعبني والبعض الآخر -خصوصًا الأطفال- يحاول مضايقتي وشد ذيلي. أما أنا لم أكن من محبي الزحام، أُريد المنزل خاويًا، وليس به سواي أنا وديمة وألعابنا.

فجأة سمعنا صوت فرقعة مدوي، وذكرني بسقوط لعبتي المعدنية على الأرض، لكنه كان أقوى من ذلك بكثير؛ ثم بدأ الحضور في المغادرة واحدًا تلو الآخر، لم أفهم لماذا ولكنني سُررت لوهلة لأني سأنفرد بصديقتي مرة آخرى، لكن إنهار ذلك الشعور برؤية وجهها وقد انقلب من السرور للقلق.
بدأ الجميع يحملون حقائبهم، ثم وضعتني ديمة داخل صندوقي الصغير وغادرنا المنزل. للأسف تُركتْ أغلب ألعابي.

مرّت مدة دون سريري الصغير، دون الطعام الدافئ، دون ألعابي الملونة، دون الكثير مما اعتدت وجوده منذ أخذتني ديمة؛ شعرت وكأننا قد عدنا جميعًا لذلك الملجأ الذي وُلدت به، ولكن على مساحة أكبر وبدلًا من القطط الصغيرة، كنا محاطين بالكثير من البشر بمختلف أعمارهم وأشكالهم.
كانت ديمة تأتي من وقت لآخر حتى تطمئن عليَّ وعلى عائلتها، كانت تقترب مني تهمس في أذني وتقص عليَّ تفاصيل الحالات التي كانت تعالجها. كنت أتعجب لأني اعتقدت أنها تهتم بالحيوانات فقط، لكنها كانت تعالج البشر أيضًا، كانت تخبرني أنه جزءٌ مما عليها تجاه وطنها.

اقترب الغروب، وبدأت تتساقط الأوراق على رؤوسنا، التقطت ديمة إحداهن وبدأت تقرأ محتواها بصوت مسموع: “من أجل سلامتكم وسلامة عائلاتكم، عليكم الإخلاء فورًا والتوجه للجنوب” لم تخرج من ديمة أي ردة فعل، وعادت إلى عملها.
بحلول الليل أخذت تتمتم بأن هذا مستحيل فكيف يتم إخلاء المستشفى! وماذا عن الرُضّع بالحضانات والجرحىٰ ومرضىٰ العناية المركزة! أحست بالعجز فناجت اللّٰه بالحسرة وقلة الحيلة.

مع كل ذلك، فقد أصبحت أيامي تمر بين جلوسي داخل الصندوق خوفًا من الضياع، وبين دقائق متفرقة من مداعبة ديمة لي قبل عودتها لعملها الذي لا ينتهي. كانت الحالات تأتي من كل مكان كأنها تخرج من الأرض أو تسقط من السماء، كأن الجرحى لا ينتهون، وعلى الرغم من حديث ديمة الدائم عن ضيق الإمكانيات، وعدم وجود أماكن لمرضى جدد، إلا أنهم دومًا يجدون متسعًا لمن يحتاج.

جاء الليل وعادت ديمة وقبل أن تُخرجني وتبدأ في سرد ما رأته على مدار اليوم؛ سمعت ذلك الصوت المعدني مرة أخرى، ولكن أقرب بكثير، وقبل أن يستطيع عقلي الاستيعاب وجدت نفسي تحت الكثير من الحطام، أبعد صندوقي أغلب الأذى عنّي، فتحت الصندوق، فخرجت منه ولكنني لم أجد أمامي غير الحجارة. مكثت بجوار ديمة أحاول إيقاظها لعدة دقائق لكنها لم تستجب لندائي!

خرجت لأطلب المساعدة كما علمتني، لكن ذلك المبنىٰ شديد الارتفاع كان قد إنهار، وتحول لوني الأبيض الناعم إلى أحمر داكن من كثرة الدماء؛ فبغمضة عين تحوّل المكان المكتظ بالحياة إلى رماد. فقدتُ منزلي، عائلتي وانقلب المرح بداخلي إلى سكونٍ دائمٍ، وأنا الآن على كومة الرماد، أرى الدمار في كل مكان، لا أعرف كيف سيكون مصيري، لكني أعرف أني أفتقد ديمة.

Previous Article

عم بدر.. من ممر قسم العلوم الأساسية

Next Article

زيتونة هيا

Write a Comment

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا

اشترك في النشرة الإخبارية عبر البريد الإلكتروني للحصول على أحدث المنشورات التي يتم تسليمها مباشرة إلى بريدك الإلكتروني.
Pure inspiration, zero spam ✨