ميلاد جديد لأم طوخ

وقفت أم طوخ أمام الدُّكَّانة بعُلْبَة كاملة من التبغ، بِجانب الكُرسِي الأحمر البلاستيك الذي تأخذه كموضع في الشارع، ظلت واقفة حتى مر عليها الشيخ الراعي، صاحب النصف لحية، دون سلام، وكان غريب أن يراها دون أن تقبض أصابعها على سيجارة.

أَذنَ الشيخ للفجر، بتكبيراتٍ مُتحشرجة يقتطعها سعال، ومع آخر “لا إله إلا الله” رَمت أم طوخ علبة التبغ في البركة الزفرة العائمة أمامها. شدت خمارها ودخلت الجامع، نظر لها الشيخ دون أن يطلق نفس، فرغ من سنته ثم ملأ الأركان: “مصلى السيدات من الباب الثاني”. لم تتحرك، سكنت تنظر إلى النَّعْش يمينها مدة، ونادت على شحاتة -صغير المصليين- وطلبت منه أن يقرأ الآية أعلى القبة فتلا: “فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا” تبسمت وتركها هو ليُقم الصلاة.

صَلت أم طوخ على مقعد خلف الصف الذي حضر، كان كلما دخل مُصلي لم يلفته قرآن الفجر قدر ما تلفته أم طوخ، بالعباية السوداء وخمارها البني المترب، وانسجامها مع بركات الفجر وطوفانها فوق سماعات الزاوية.

أغلق الشيخ الكهرباء كلها، ورمقها وهي تخرج متعرجة، لم ينطق وقالت هي: “الله يهديك يا راعي، وما يجعلك راعي على حد”.

بأنفاسٍ سليمة لا تحمل النيكوتين، شمت أول نسائم الصباح، وبروح تركتها تسعى خلفها ببطء متأخرة، كانت تتمايل، ووصلت لمصنع الحلاوة، ابتاعت بخمسة جنيهات “غزل البنات”.. يكفيها طريق سفر، أيام ما كان لورقة الخمسة قيمة.

أم طوخ التي حيت في هذه الدُّكَّانة، وأغلقتها الآن لأول مرة بعد عشرين سنة من الفقد والرحيل، ربت فيها كل ما كان له من الحياة نصيب، سمك: بوري وبلطي وكل أنواعه، وفراخ مزارع وبلدي، وخراف وحمام وبط وإوَزّ، كأنها قطعة من جنة الحيوان، ينقصها رائحة المسك. ربت مع هؤلاء: أمير، ابن بنتها التي راحت مع أبوها في حادثة سير، كانت تتوسم فيه كل الخير، لدرجة أنها رجت الشيخ الراعي مرة -على غير طبع- أن يحفظه القرآن، فكانت أسعد أيامها حينما يعود لها أمير ويرتل عليها ما حفظه مثلما كان يفعل طوخ طوال عمرها معه.

صعدت أم أمير وأبيها طوخ، تركت بعدها أم طوخ البيت، ولما سألها أمير لماذا لا نعود له قالت: “البيت كان طوخ وطوخ كان البيت”. رفيق روحها ودخانها الذي أهداها علبة من الغالية في خطوبتهما، عندما رحل علقت لافتة أعلى الدُكان باسم “أم طوخ” كتغير رسمي لكُنيتها، واكتفت أن تحفظ صورة نسرين -ابنتها- في سلسلة من الذهب الصيني ناحية الشمال من صدرها.

وصلت أم طوخ بيد فارغة من غزل البنات، وروح هائمة خلفها، عند أرض فانية سماها الصبية “الملاهي” وجهت نظرها إلى “القالب” -أرجوحة قديمة خطرة إلى حدٍ ما-، صعدت ومعها روحها هذه المرة، بعدما أكد عليها صاحب القالب أن هذه الطلعة على ضمانتها وأنه لا يسأل إن فارقت الحياة أو انكسرت. ذهب وجاء بها القالب وطاف ورسَّىٰ، معه يعلو كل أسىٰ وترسو كل معاناة، مِن أيام ما كانت في سوق “الشنيش” تُلملم أوراق الكُرنب لأمها، حتى وقفتها أمام دُّكَّانها تستلم جثة طوخ ونسرين. ولما مال القالب للسكون وبدأت الحركة تستقر، فتحت ذراعيها كأنها تتأهب لعناق غائب مُنذ فترة، رمقها ابن صاحب القارب في دهشة وظن أنها جِنيَّة، لكنها نطقت ونفت ذلك فقالت: “حتى أمير تركني يا طوخ”.

نزلت بعد هذا المشهد ورَكنت جانب القالب وبكت، بكت لفقدان طوخ وبكريتها لأول مرة، وعلى أمير الذي أحس في صوته بلوغًا فتركها وارتحل، ولأربع حمامات ذبحتهم الأمس لتوفي حق علبة التبغ، ولنفسها. استشعرت الآية التي تلاها شحاتة في الجامع، وكل وِرد أعاده عليها أمير، وآيات الشكر والحمد الذي فسرها طوخ لها. عادت روحها إلى الجامع ولم يرمقها هذه المرة الشيخ الراعي، وصعدت للنَّعش واستقرت في سلام.

Previous Article

زيتونة هيا

Next Article

الرجال لا يبكون

Write a Comment

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا

اشترك في النشرة الإخبارية عبر البريد الإلكتروني للحصول على أحدث المنشورات التي يتم تسليمها مباشرة إلى بريدك الإلكتروني.
Pure inspiration, zero spam ✨