يتذكر عندما سألتهم المعلمة في أعوامه الدراسية الأولى عن اسمه وعنوانه -قبل أن يُسلَب حق التعليم- وقتها هَمْهَم وقال: “بعْــزة…” ولم يستطع وصف باقي العنوان، نصحته وقالت: “لازم تحفظ عنوانك يا حبيبي عشان لو توهت”، لكن ما جدوى العنوان بلا بيت؟ الآن يُمارس أول رحلة نزوح من بيتهم الحبيب، الجملة الوحيدة التي تُقال منذ أن قرأ والدهم منشور الإخلاء المشؤوم: “هاتوا أهم شي”، سألوا بنفس واحد: “هنعود تاني؟” وكانت الإجابة صمتًا بائسًا. الصغار يحملون حقيبة المدرسة، هذه المرة تحمل كل شيء، لو كانت الذكريات تُعبَأ لوضعوها فيها. وأمهم كانت تتمنى لو تطوي البيت بما فيه وتضعه في حقيبتها.
أخذوا بعض الأثاث وكل الطعام خشية أن يفسد، سيارة والدهم العزيزة هي الأخرى ستبقى بجانب البيت تأنس به، سيضطرون لتأجير عربة كارو تأخذهم لمكان أكثر أمنًا، كثر النزوح فسأموا الأمر قالت لهم جدتهم “نحنا بننزح من وقت النكبة”، سأل أصغرهم: “شو بتكون النكبة؟” ففتح جرحًا عميقًا في ذاكرة جدتهم نزف حكاوي رائحتها الوطن، ختمتها بجمل تحمل عبق الأمل والتفاؤل. في كل رحلة نزوح وقع منهم شيئًا: ذكرى، أمل، أثاث، شيء غالٍ، وأثمن ما يقع منهم.. حبايبهم، رياح الموت تهب فتتأرجح أغصان شجرة العائلة والورق يقع لا مفر.
مرة نزحوا لقسم شرطة مقصوف عاشوا في المتبقي منه.. في زنزانة، لم يكونوا مكبلين؛ لكن الحرب سجن أكبر، وجريمتهم الوحيدة أنهم أبرياء. قبلها نزحوا إلى مدرستهم، كانوا يتمنوا لو يرن الجرس ويأتي وقت العودة، ثم نزحوا للمستشفى ونصفهم مصابين، سمعوا أوامر الإخلاء، خرجوا في مشهد مريب فاقدين ومفقودين، لتصبح الخيمة القماش هي البيت وأهم من أي شيء، والدهم يحملها ويجبر الصغير أن يسير على قدميه. أقسى مرة نزحوا كانت على أقدامهم مشوا كثيرًا هذه المرة قال والدهم: “الحمدلله إنه جدتكم استشهدت ما بتتحمل هالعذاب”. تمنوا لو أن معهم حمار بعربة مثل هؤلاء المحظوظين، ,المُر أنهم كان لديهم سيارة وحال ميسور جميل.
يحالفهم الحظ لو وجدوا لخيمتهم مقرًا على الرصيف، عاشوا مع الشتاء والمطر وحرقهم حر الصيف، لكن أقسى معانتهم الجوع والفقد، أخاهم الصغير الذي لم يعرف التعليم أجاد العد، فكلما نزحوا وجد أخوته يعدون هذه المرة الكام ومن فين لفين؟ جلسوا في خيمتهم ليلًا يتذكروا هذه المرة الكام فوجدوها الأربعة عشر، هم أيضًا كان عددهم (14)! حاولوا تذكر عنوان بيتهم الأول ومأواهم، لم يتذكره سوى أكبرهم قال في نفسه: “معلمتي العزيزة أنا الآن تائه، أحفظ عنواني جيدًا لكن لن أصل له”، ناموا فكانت خيمتهم هذه عنوانهم الأخير قبل القصف.