أن تُصبح قصيدتك البردة مدرسةً لمن أراد أن يكتب في المدح النبوي حتى قيل: إنها أشهر قصيدة مدحٍ في الشعر العربي كله! أن يتغنى المداحون بها بعد وفاتك بـ(730) عامًا، أن يجعل الناس لها يومًا خصيصًا لقراءتها يُعرف بـ”مجالس الصلاة على النبي”.. أن تكون بكل بساطة “البوصيري”!
“نشأة المداح”
ترجع جذور البوصيري إلى قبيلة “صنهاجة” إحدى أكبر القبائل في بلاد المغرب وشمال أفريقيا والتي نزحت إلى مصر، وُلد في أول شوال عام (608) هـ الموافق (1213)م في بلدة “دلاص” وهي قرية قديمة بين الفيوم وبني سويف. حفظ القرآن، وكان معاصراً لشعراء مميزين منهم: عمر بن الفارض، وبن مطروح، وبهاء زهير، ودرس: علوم اللغة، الأدب العربي، علم التشكيل، التاريخ الإسلامي وسيرة النبي محمد ﷺ؛ فاستهواه ذلك حتى كرّس طاقته وشِعره في مدح خير البريّة.
“أحبك يا رسولي”
أشهر أعماله قصيدة “الكواكب الدريَّة في مدح خير البريَّة”، والمعروفة باسم “البُردة”، يقول عنها الدكتور زكي مبارك: “البوصيري بهذه البُردة هو الأستاذ الأعظم لجماهير المسلمين.. فعن البُردة عرفوا أبوابًا مِن السيرة النبوية، وعن البُردة تلّقوا أبلغ درس في كرم الشمائل والخلال”، فتعتبر من أشهر قصائد المديح النبوي، استمدت شهرتها من قوتها البلاغية ورصانة معانيها، عارضها عدة شعراء، وتناولها النقاد بالشرح والتفسير وتمت ترجمتها إلى عدة لغات: الإنجليزية والفرنسية والألمانية والتركية والهندية والفارسية وغيرهم.
يبدأ “البوصيري” القصيدة ببيت غزلي يُسمّى “النسيب” في الشعر العربي وهو الغزل في مقدمة القصيدة العربية، يتغنى بذكر ديار المحبوب، التي في طريق الحرمين الشريفين، فيقول:
“أمِنْ تذَكُّرِ جيرانٍ بذي سلمِ.. مزجتَ دمعًا جرى من مقلةٍ بدمِ
أمْ هبَّتِ الريحُ من تلقاءِ كاظمةٍ.. وأوْمَضَ البَرْقُ في الظلْماءِ مِنْ إضَمِ”.
وتعد “ذي سلم” و”كاظمة” و”إضم” الأماكن الواقعة على طريق الحرمين الشريفين. انتقل “البُوصيري” بعد ذلك إلى مجاهدة النفس، فيرى أنّ النفس يجب أن تُكبح كما تُكبح الفرس، ويختم في هذه الجزئية بالحث على التوبة والاستغفار، فيقول:
“فَاصْرِفْ هَواها وَحاذِرْ أَنْ تُوَلِّيَهُ.. إنَّ الهَوَى مَا تَوَلَّى يُصْمِ أو يَصِمِ
وَرَاعِهَا وَهْيَ في الأعمالِ سَائِمَةٌ.. وَإِنْ هِيَ اسْتَحْلَتِ المَرْعَى فَلا تَسِمِ
واستَغْفِرِ اللهَ مِنْ قولٍ بِلاَ عَمَلٍ.. فَكَمْ دَلَلْتَ قَوْمًا بِالطَّرِيقِ وَضَلَلْتَ”.
ثم انتقل لذكر مولد النبي ﷺ، وذكر معجزاته كالإسراء والمعراج، وتوقف عند معجزة القرآن الكريم لبُرهة من الأبيات، فيقول:
“آياتُ حقٍّ من الرحمنِ محدثةٌ.. قَدِيمَةٌ صِفَةُ المَوْصوفِ بالقِدَم
لم تقترنْ بزمانٍ وهي تخبرنا.. عَن المعادِ وعَنْ عادٍ وعَنْ إرَمِ”.
وفي ختام القصيدة يوضح أن قصيدته “البُردة” توبة إلى الله -تعالى- لما كان قبلها من شعره في الهجاء والسباب، ويسأل أن تشمله رحمة رب العالمين، ويطلب منه أيضًا أن يغفر للمسلمين جميعًا، فيقول:
“يِا رَبِّ بِالمُصْطَفَى بَلِّغْ مَقَاصِدَنَا.. وَاغْفِرْ لَنَا مَا مَضَى يَا وَاسِعَ الكَرَمِ
وَاغْفِرْ إِلَهِي لِكُلِ المُسْلِمِينَ بِمَا.. يَتْلُونَ فِي المَسْجِدِ الأَقْصَى وَفِي الحَرَمِ”.
“مولاي صل وسلم دائمًا أبدًا”
من الجدير بالذكر أن البُردة تحتوي على الصلاة على النبي بأعداد لا نتخيلها، وغير مألوفة على سائر المسلمين، كعدد ما جرى به القلم والقدر، وعدد نعم الله على الخلائق وما كان في الأكوان! فيقول:
“فِي كُلِّ طَرْفَةِ عَيْنٍ يَطْرِفُونَ بِهَا.. أَهْلُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِينَ أَوْ يَذَرُوا
مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِينَ مَعْ جَبَلٍ.. وَالْفَرْشِ وَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِي وَمَا حَصَرُوا”
ويعتبر أشهر بيت في هذه القصيدة الذي تجده يتردد على ألسنة المسلمين في كثيرٍ من الأوقات هو:
“مولاي صل وسلم دائمًا أبدًا.. على حبيبك خير الخلق كلهم”.
“هـو الحبيبُ الذي تُرجَى شفاعته”
قيل إنّ السبب وراء قصيدة “البردة” هو إصابته بالضعف، فكتبها ليستشفع بها راجيًا من الله أن يعافيه من مرضه، ويُروى أنه رأى النبي ﷺ في منامه وغطاه ببُردته، فشُفِيَ بعدها. كتب بعدها أكثر من قصيدة منهم “الهمزية” المسماة “أم القرى”، تحكي القصيدة أهم معالم السيرة النبوية، وتتفنن في مدح خير البريَّة ﷺ، ولم تغفل عن ذكر الصحابة وأمهات المؤمنين -رضي الله عنهم وأرضاهم-، وكتب أيضا “الحائيَّة” و”الدالية” وغيرهم، وتُوفي عن عُمر يناهز (87) عاماً عام (1295)م بالإسكندرية، راجيًا شفاعة نبيه ﷺ.