على الجسر.. حيث يبدأ المعنى

بدأت رحلتي مع أدب السيرة الذاتيَّة حين التقيتُ بـ”الأيام” لطه حسين، ذلك النص الذي لم يكن مجرد سردٍ لحياة، بل مرآة فتحت لي أبواب التأمل في معنى التجربة الإنسانيَّة. ومنذ تلك اللحظة، تسلَّل حب هذا الفن إلى قلبي، حتى قررت أن أُخصص جزءًا من قراءاتي في معرض الكتاب الماضي للسير الذاتيَّة وحدها. كنت أعلم أن سيرة الدكتورة عائشة عبد الرحمن -بنت الشاطئ- لا بُد أن تكون في طليعة ما أبحث عنه، فقد قرأت عنها كثيرًا وشعرت أن وراء الحبر امرأة تستحق أن تُصغى لها التجربة.

“سيرة كنت أبحث عنها”

ذهبتُ أبحث عنها بين أروقة المعرض، أنتقل من دارٍ إلى أخرى، حتى قيل لي أنها نفدت! لحظة صمت قصيرة.. ثم جاءني صوت رجل يقف بقربي، قال أنه لمح نسخة هنا قريبًا؛ فسرت في الاتجاه الذي أشار إليه وجثوت على ركبتي أفتِّش بين الكُتب، وكأنني أُنقِّب عن أثرٍ عزيز. ولم يخب قلبي، وجدتُها أخيرًا! أمسكتُ بها كما يُمسك المرء بكتابٍ انتظره طويلًا! ومنذ بدأت القراءة، شعرت أنني وجدت صوتًا نادرًا يسير بي عبر الحياة، لا كقارئة فقط بل كرفيقة روح.

“قبل أن نلتقي”

السيرة الذاتيَّة هي فنٌ أدبي صادق، تختلف عن غيرها من الأجناس الأدبيَّة بأنها ميثاق مقدس بين الكاتب والقارئ، ليست مجرد سردٍ لأحداث الماضي، بل رحلةٌ أدبيَّة عميقة يكتبها المؤلف بضمير المتكلم، جامعًا بين صدق الاعتراف وجماليَّة السرد، وتأملات الذاكرة. فيها يُصبح الكاتب بطلًا وراويًا وحلَّالًا لألغاز، وتُعتبر “على الجسر” سيرة ذاتيَّة غير تقليديَّة، فهي لا تتبع الكرونولوجيا أو التسلسل الزمني الصارم، بل تُقدِّم الحياة عبر ومضات ذاكرة أو لوحات تأمليَّة! تبدأ الكاتبة سيرتها من لحظة وجع مفصليَّة -لحظة وفاة زوجها ومُعلِّمها الشيخ أمين الخولي-؛ لتعود بنا بعدها إلى طفولتها في دمياط، حيث نشأت بين عائلتين: بيت أبيها في الريف وبيت جدها في المدينة.

في طفولتها لم تكن المدرسة مسموحة لها، إذ كان تعليمها يقتصر على حفظ القرآن وعلوم الدين، فبدأت رحلتها الطويلة مع التعليم، مليئة بالموانع الاجتماعيَّة والعائليَّة؛ لكنها كانت محكومة بإرادة صلبة ونفس متعطشة للمعرفة. لم تكن تنظر إلى التعليم كوسيلة للترقي الاجتماعي، بل كضرورة وجوديَّة، كشيء لا يُمكن العيش بدونه! وبهذا الإصرار الذي لم يتلوث يومًا بالكراهية أو النقمة، واصلت حتى وصلت إلى كليَّة الآداب بجامعة القاهرة، وهناك بدأ فصل جديد!

“اللقاء والفراق المحتوم”

في الجامعة التقت بالأستاذ الذي سيُصبح فيما بعد زوجها ورفيق دربها -الشيخ أمين الخولي-، لم يكن مجرد زوج، بل كان مرآةً روحيَّة، عقليَّة، لغويَّ ووجدانيَّة! تصف حياتها معه كرحلة استنارة، كانت كل خطوة فيها مضيئة، مليئة بالرؤية والحب والعلم، وكأن حياتها كلها تتجه إليه، حتى حين غاب عنها لم يغِب منها. وحين بدأت تكتب سيرتها، كانت تكتب عنه بقدر ما تكتب عن نفسها، وكأن فقده حرَّر الكلمات من قيودها، فجاءت صادقة، رِقراقة. فكتبت بعد رحيله: “اللهم إني ما جحدت قط بشريته، وكل بشر يموت، لكني ما توقعت أن أعيش بعده!”

“جوهر السيرة: المضمون والأسلوب”

في هذه السيرة تنسج بنت الشاطئ عوالمها ببراعة، تعرف كيف تحوِّل السيرة الذاتيَّة من مجرد سرد لأحداث الماضي إلى لوحة إنسانيَّة غنيَّة بالأبعاد. تقف على عتبة أولى جسور حياتها، جسر بين عالم القرية ببساطته وتقاليده الراسخة، وعالم المعرفة الواسع الذي كانت تتوق إليه. نراها تصف بتأثرٍ بالغ ذلك الصراع الخفي بين التزامها بالتقاليد وشغفها بالعلم، وكيف تحوَّل هذا الصراع إلى حوار خلَّاق بين الأصالة والحداثة.

تتجاوز السيرة مجرد التوثيق التاريخي لتغوص في أعماق الأسئلة الوجوديَّة، فتطرح بجرأة قضية تعليم المرأة في مجتمع محافظ، وتكشف كيف تحوَّلت العقبات الاجتماعيَّة إلى دروسٍ في الصبر والإصرار. نلمح في ثنايا السيرة ذلك التوتر الجميل بين التمسك بالهُويَّة الدينيَّة والانفتاح على الفكر الحديث، حيث تروي كيف كانت تقرأ كتب التراث بنهمٍ في نفس الوقت الذي كانت تدرس فيه الفلسفة الحديثة، وكيف استطاعت أن توفق بينهما في رؤية إسلاميَّة مستنيرة.

لا تكتفي بنقل الأحداث، بل تُحللها بعين العالمة الناقدة، فتصف كيف تحوَّلت نصوص التراث من قيودٍ إلى جسور تعبر منها نحو آفاق أرحب، وتكشف لنا كيف كان التعليم بالنسبة لها ليس مجرد وسيلة للنجاح الشخصي، بل سلاحًا لتحرير العقل من الجمود، وأداة لإثبات أن المرأة الملتزمة يُمكنها أن تكون مثقفة وعالمة دون أن تفقد شيئًا من أنوثتها أو إيمانها.

كما تنساب لغة بنت الشاطئ كالنهر الهادئ العميق، تحمل في تيارها عذوبة الشعر ودقة البحث الأكاديمي! نجد أنفسنا أمام أسلوب سردي فريد يجمع بين سلاسة الحكاية وعمق التأمل، حيث تنتقل بنا بانسيابيَّة مُدهشة بين ذكريات الطفولة في دمياط وصراعاتها الفكريَّة في القاهرة، دون أن نشعر بأي انقطاع أو تعثر. تتميز لغتها باستخدام بارع للاستعارات، فتصف حياتها كجسرٍ ممتد بين الضفتين، وكأنها تريد أن تقول لنا أن الوجود نفسه هو جسر نعبره جميعًا، ونلاحظ كيف تتحوَّل المفردات البسيطة في يدها إلى رموز عميقة!

تتقن بنت الشاطئ فن الانزياح بين الأجناس الأدبيَّة! فتارةً نقرأ سردًا قصصيًا حميمًا، وتارةً أخرى نجد أنفسنا أمام مقالة نقديَّة عميقة، ثم نغوص فجأة في تأمل فلسفي رقيق! ومن المُبهر أن هذا التنوع لا يُسبب تشتتًا، بل يضيف طبقات من المعنى تُثري النص. كما نلمس أيضًا ذلك الصدق العاطفي الذي يُضفي على السيرة مصداقيَّة نادرة، حيث تعترف بأخطائها وتتراجع عن بعض مواقفها بكل شجاعة، وكأنها تقول لنا أن النضج الفكري هو رحلة من المراجعة والتقويم المستمر.

“على الجسر… إلى القارئ”

أُرشح هذا العمل لكل من يبحث عن سيرة ذاتيَّة تجاوزت حدود الحكي التقليدي لتصبح تجربة شعوريَّة وفكريَّة كاملة، ولكل قارئ يؤمن بأن الكتابة قد تكون عزاءً، وأن الذاكرة يُمكن أن تُصاغ كأدب. وقد صدرت “على الجسر، أسطورة الزمان” عن “دار الهلال” عام (1966)، وتقع في (128) صفحة.

– التقييم: (9.5/10).

Previous Article

كيف يصنعنا المعنى؟

Next Article

مع أمهات المؤمنين

Write a Comment

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا

اشترك في النشرة الإخبارية عبر البريد الإلكتروني للحصول على أحدث المنشورات التي يتم تسليمها مباشرة إلى بريدك الإلكتروني.
Pure inspiration, zero spam ✨