رسومات كاريكاتوريَّة وكلمات ضد الديكتاتوريَّة

وسط عالمٍ مُعتم أُغلِقَت فيه أبواب البهجة واقتحمه اللون الأسود القاتم وساد فيه التصنع والتكلف؛ ظهرت ريشة الفنان “بهجت عثمان” لتكشف لنا المعنى الجمالي للحياة في رسوماتٍ بسيطة، أينما وُجدت في جريدة أو كتاب تطير بحريَّة. شخص صادَقَ أدوات الرسم وكل مكان رسمه، أحب وجوه الناس فعبر بخطه البسيط عن الملامح الفانتازيا التي بداخلنا، كره الديكتاتوريَّة والظلم فصنع “إمبراطوريَّة بهجاتيا العظمى” وترأسها هو تحت اسم “بهجاتوس”.

بهجت محمد عثمان فنان ومُثقف من مواليد حي بولاق عام (1931)، أحب الرسم منذ طفولته وأخذ أدوات الرسم صديقًا، اكتشف موهبته مفتش الرسم بالابتدائيَّة ودعم موهبته أستاذ الرسم في المرحلة الثانويَّة، تخرَّج من كليَّة الفنون الجميلة عام (1954)، وعمل بتدريس الرسم للأطفال لمدة عامين، ثم اتجه للصحافة برسم كل ما يُعبر عن القضايا الإنسانيَّة والسياسيَّة والجماليَّة، عمل بمجلات: (روزاليوسف، صباح الخير، المصور، الحوار)، أحب مجلة روزاليوسف فاستنشق فيها نسيم الديمقراطيَّة كما ذكر في إحدى اللقاءات.

“حين يُصبح الممنوع مرفوعًا، يظهر الكاريكاتير الأسود المر” هكذا قال بهجت عثمان.

كان تفكيره سياسيًا، اهتم بمضمون النكتة والرأي فخرجت رسوماته متقدمة الفكر، في فبراير (1989) خرج بكتابه “بهجاتوس رئيس بهجاتيا العظمى” -الديكتاتوريَّة للمبتدئين-؛ ليُعبر بجرأة عن الواقع المسكوت عنه.. فأراد أن يسخر من النظام كله في شخصه!

وصف الورق بأن “حكايته حكاية” فرأى فيه الرعب القاتل ووجد به المتعة والراحة، والواحة الواسعة الذي يُعبر فيها عن ما يشعر، وصف رسام الكاريكاتير بأنه “صاحب رأي”، رآه الوسيلة لإيصال وجهة النظر فبريشته يستطيع الهجوم أو هدم السلبيات أو تصور الشكل الذي يحلم به. عندما أوقف فنه الكاريكاتوري أخرج كتاب “رفاق سلاح” عرفانًا بالجميل لهذه المهنة، فوثق كل ما يخصها من وجهة نظره ومن هم رفاقه في تلك المهنة الذي مارسها لمدة أربعين عام، فعرض من تعلم منه ومن زامله على الطريق حتى من لم يراهم، كان صديقًا وشريكًا لـ: صلاح جاهين والبهجوري وزهدي.

لم ينشغل عن عالمه لحظةً واحدة، فأخذ يُلون العالم للأطفال ببهجة اللون الأخضر والأحمر والأصفر، كتب لهم أسفل كل لوحة: “لنا الحق في….”؛ محاولًا أن يهمس في أذن الأطفال ويخبرهم بأن لهم حقوق، مؤكدًا أن ثمة حقائق لابد ألا تغيب خلف الألوان وهي أنهم لهم الحق في أشياء كثيرة في هذا الوطن.. حقهم في اللعب وحتى حقوقهم السياسيَّة والمدنيَّة. قدم أيضًا إلى الأطفال كتاب “ميثاق حقوق الطفل”، بالتعاون مع منظمة اليونيسيف في بيروت. حرص على أن تنشأ أجيال جديدة تحفظ ميثاق حقوقها لكي تستطيع أن تحيا في هذا العالم، فحاول زرع فيهم روح التمرد وحب الحريَّة.

كثيرًا ما يكون رسمه عاديًا وبسيطًا مع تعليقٍ قوي وصادم، فخطه يبدو دائمًا كأنه طفل يتعلم الرسم.. فطري وعفوي إلى حدٍ كبير، ومع التأمل فيه تجده يحمل كل وجهة نظره في الحياة، لا يبيع لوحاته لأنه يريد أن يكون فنه للجميع.. لمن لا يمتلك المال. معبرًا عن حسه الإنساني العميق نال بهجت العديد من الجوائز عن فن الكاريكاتير من (سوريا، تونس، الجزائر، ألمانيا) وعن رسوم الأطفال جائزة أحسن رسام كتب أطفال -جائزة أدب الأطفال-، وجائزة التميز.

في لحظة أوقف رسم الكاريكاتير عندما شعر أن العالم أصبح مضحكًا لا يحتاج أن نُعبر عنه واكتفى برسوم الأطفال؛ فوجد أنه لم يعد هناك أمل إلا في الأجيال الجديدة، وأنه لا فائدة من الكاريكاتير خاصةً أن الواقع أصبح أكثر مأساة! أخطر ما واجهه فى أعوام عمره الأخيرة ضمور البصر فى عينيه، وكانت تلك بالنسبة إليه كفنان كارثة كبرى، واكتملت الكارثة بوفاة زوجته التى كانت فنانة فى عالم الدمى، وكانا فى علاقاتهما الزوجيَّة بمثابة صديقين يُكمل أحدهما الآخر في كل شأن من شؤون الحياة، خاصةً في الفن والسياسة والكفاح من أجل الحريَّة، بعدها فقد متعة البقاء على قيد الحياة فغادرها في شهر يونيو (2001)؛ تاركًا مأساتنا المتكررة دون أن يضحكنا عليها.

Previous Article

رائد الحوسبة العربيَّة

Next Article

من ليتل للشباز وقصة النضال

Write a Comment

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا

اشترك في النشرة الإخبارية عبر البريد الإلكتروني للحصول على أحدث المنشورات التي يتم تسليمها مباشرة إلى بريدك الإلكتروني.
Pure inspiration, zero spam ✨