عاشق الحقيقة الحزين

فَتِّش عنه بين كلماته ستجده هناك ثائرًا، تأمل ملامح وجهه لتتبين آثار ما خطته الأيام من حزنٍ ووحدة، دَوِّر في ثنايا قلبه ستجده -رغم المآسي- قلب فارسٍ كَرِه المنافق والجبان. نجيب سرور شاعر وممثل وناقد وكاتب ومخرج مسرحي، والأهم من ذلك أنه -كما عرَّف نفسه- ابن الأشقياء ربيب المصطبة.

“من الأرض نبت”

في الأول من يونيو عام (1932) بالتحديد في دارٍ فلَّاحي من دُوُر قرية إخطاب -التَّابعة لمحافظة الدَّقهليَّة- نبتت للحاج محمد سرور نبتة جديدة أسماها محمد نجيب والتي اشتهرت فيما بعد باسم نجيب سرور، لم يكن أمام سرور عهد من الإيناع نظرًا لحال أسرته الفقيرة التي كانت تأكل مما تزرعه، والتي كانت تعاني -كسائر الفلَّاحين في الثَّلاثينيَّات- من الإقطاع وسطوة الإقطاعيين، فكان الظلم أول ما لمحت عيناه، ومن هنا بدأ الغضب يتراكم داخله إلى أن بلغ مبلغًا عظيمًا منه عندما رأى والده -رمز عزته- يتعرض للإهانة من عمدة البلدة، فظلت هذه الصورة تلاحقه إلى أن أفرغ لنا بعضًا منها في قصيدة “الحذاء” عام (1956).

“أنا ابن الشقاء.. ربيب (الزريبة والمصطبة)

وفى قريتى كلهم أشقياء

وفى قريتى “عمدة” كالإله

يحيط بأعناقنا كالقدر

بأرزاقنا.. بما تحتنا من حقول حبالي

يلدن الحياة”

“حظٌ عابس”

أبدى نجيب منذ الابتدائية حبًا لتعليم نفسه بنفسه -فلم تكن المدرسة تعطيه كل ما يريد-، وعندما شبَّ والتحق بالثانويَّة زاد ولعه بالفلسفة وقراءة الأدب وكتابة الشعر بالفصحى، كما زادت ثورته ورغبته في تحقيق العدالة والحرية من خلال الكلمة؛ فوجد في المسرح خير معين لذلك، فالتحق بـ “المعهد العالي للفنون المسرحيَّة” وتخرَّج منه وعُيِّن فيه ممثلًا ومخرجًا عام (1956).

لم يكن لسرور حظ من اسمه قط، ففي (1958) وعندما أُرسل إلى روسيا لدراسة الإخراج المسرحي، بدأ يُعلن عن وجهات نظره السياسيَّة وميوله الماركسيَّة، وألقى الخطب الحماسيَّة المعادية للأنظمة الدكتاتوريَّة؛ فأوشى به بعض الطلبة للسفارة المصريَّة، فسُحبت منه المنحة وكذلك الجنسيَّة، وظل وحيدًا في الخارج مُشرَّدًا بين عواصم البلدان، لم يُقلل من حدة وحدته سوى زواجه وإنجابه لابنه شُهدي.

“حصاد أيامه”

بعد أكثر من عشر سنوات قضاها سرور خارج مصر، أخيرًا سُمح له بالعودة في (1964)، فبدأ حياته الأدبيَّة والفنيَّة وأيضا السياسيَّة، وأنتجت أنامله العديد من الأعمال المختلفة والنادرة كشخصه، فكتب عام (1965) مسرحيَّة بعنوان “ياسين وبهيَّة”، وأعقبها بعامين مسرحيَّة “يا بهيَّة وخبريني”، ثم في (1968) كتب مسرحيَّة نثريَّة بعنوان “آلو يا مصر”، وفي نفس العام كتب وأخرج دراما نثريَّة مُقتبسة من رواية “ميرامار” للأديب العالمي نجيب محفوظ تحمل ذات الاسم.

أما في الجانب النقدي فكتب عددًا كبيرًا من المقالات النقديَّة منها: (تحت عباءة أبي العلاء – هموم في الأدب والفن – هكذا قال جحا) وغيرها، إضافة إلى عمله البارز “رحلة في ثلاثيَّة نجيب محفوظ”.

“يا نابشًا قبري حنانك، ها هنا قلبٌ ينام”

كانت السبعينيات هي الفترة الأسوأ في حياة نجيب، فقد شهدت محاولات عدة لتكسير أقلامه الباحثة عن الحقيقة، فعندما كتب “الذباب الأزرق” -والتي مُنعت من النشر- وغيرها من المسرحيات والقصائد الهجائيَّة؛ اتُهم بالجنون وأُرسل أكثر من مرة إلى مستشفى الأمراض العقليَّة -بالعباسيَّة-؛ مما أثَّر على سمعته الثقافيَّة والفنيَّة.

وبعد (14) سنة أدبيَّة مليئة بالشَّدِ والجذبِ والنجاحات والإخفاقات، وجد نجيب أن العالم هنا لم يعد يحتمل قلبًا راغبًا في الحريَّة، فقد ضاقت عليه الأرض، بينما كانت أحضان المنيَّة أرحب. رحل سرور من بيت أخيه بدمنهور في (24) أكتوبر عام (1978)؛ ليتابعنا -من عالمٍ أوسع صدرًا- آملًا أن نصل إلى مبتغاه.

Previous Article

رسائل ريلكه: دروس في الإبداع والحياة

Next Article

رائد الحوسبة العربيَّة

Write a Comment

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا

اشترك في النشرة الإخبارية عبر البريد الإلكتروني للحصول على أحدث المنشورات التي يتم تسليمها مباشرة إلى بريدك الإلكتروني.
Pure inspiration, zero spam ✨