تحت سماء أوروبا الشرقيَّة، بالتحديد غرب شبه جزيرة البلقان، حيث تقع “البوسنة والهرسك”، تلك الأرض التي تحاوطها الآلام من كل الاتجاهات، عانت من الاحتلال النمساوي بعد سقوط الحكم العثماني، وعندما حاولت استعادة قوتها بعده، وقعت تحت قبضة الحكم الشيوعي اليوغوسلافي الغاشم، هناك عاش المسلمون في غربةٍ موحِشة، وضُيق الخِناق على الإسلام وأهلهِ، فكانت تُغْلَق المدارس، وتُهدم المساجد، وتُكمم الأفواه، ويُساق الأحرار إلى السجون، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رَحُبت.
من بين تلك الآلام المحفورة في وجدان الناس، وندوب التاريخ التي لا تُمحى من ذاكِرة البوشناق -مسلمو البوسنة والهرسك-، وفي عام (1925) بزغ في شمالها نجم جديد معلنًا عن مولد المفكر “علي عزت بيجوفيتش”؛ ليُسلط الضوء على الحقوق المسلوبة من ستة ملايين مسلم في وسط أوروبا، لم يَكُن مجرد رجل دولة، بل مفكرًا يَحمِل في عقله نور الفكر، وفي قلبه شُعلة النضال.
“نضال في سبيل الوعي”
في أسرة عريقة متمسكة بإسلامها، زرعت في قلب ابنها حب الإسلام وغذته بتعاليمه؛ ليبدأ الفتى علي عزت نضاله مبكرًا، تأمل حال المسلمين في بلاد البلقان وحمل همهم، حيث الواقع المتردي ماديًا ومعنويًا؛ بسبب الحكم الشيوعي الذي كان شديد الوطأة على الإسلام والمسلمين، وبالرغم أنه لم يتجاوز وقتها (16) عامًا؛ لكنه فكر فيما يُمكن أن يقدمه للمسلمين، فهداه تفكيره إلى إنشاء جمعية أسماها “الشبان المسلمين”، ودعا إليها نفرًا من زملائه الطلبة؛ لتكون الجمعية أشبه بنادٍ مدرسي، يجمع الطلبة المسلمين، يتحاور معهم ويعمل على توعيتهم وتثقيفهم، ثم انتقل من الكلام إلى العمل، فقام بأعمال خيريَّة وثقافيَّة، وأنشأ قسمًا للفتيات.
“الفتى المكافح”
بعد ست سنوات من تأسيسه للجمعيَّة، قامت الحكومة الشيوعيَّة باعتقاله هو وصديقه “نجيب شاكر بيه”؛ بسبب مساعدتهما في إصدار جريدة “المجاهد”، وبعد خروجهما من المعتقل، شَنَّ الشيوعيون حملة أخرى من حملاتهم الضارية ضد الشبان المسلمين، ففي عام (1949)، قدموا أربعة أعضاء من الجماعة إلى المحاكمة التي قضت في النهاية بإعدامهم، هذا بالإضافة إلى اعتقال عدد -غير قليل- من الشبان المسلمين؛ بسبب نشاطهم الإسلامي الملحوظ، وفي عام (1983)، تَمَّ اعتقال بيجوفيتش مرة أخرى؛ بسبب نشره دعاية إسلاميَّة، ثم أُطلِق سراحه أخيرًا في عام (1988).
“الفتى في مواجهة أخرى”
عندما اجتاح “هتلر” يوغوسلافيا واحتلها في عام (1941)، وأسس حزب “الأشتاشا”، الذي كانت مهمته إقناع الطلاب المسلمين بفكره الخاطئ، تصدى لهم بيجوفيتش وزملائه، فكان بمثابة الصخرة التي تحطمت عليها آمالهم، حتى أن الزعيم الشيوعي اليوغوسلافي “جوزيف تيتو” وصفه فيما بعد “بالرجل الخطير”؛ لأنه يمثل خطرًا على الفكر الشيوعي الماركسي.
“كفاح من أجل السلام”
بعد تهاوي الأنظمة الشيوعيَّة في أوروبا الشرقيَّة، وعدم قدرتها على احتواء غضب الشعوب، اضطر الحزب الشيوعي اليوغسلافي إلى السماح بالتعدديَّة الحزبيَّة، فانتهز بيجوفيتش الفرصة، وقام بتأسيس حزب العمل الديمقراطي، وشارك في الانتخابات الرئاسيَّة، وفاز فيها، ليُصبح في نوفمبر عام (1990) رئيسًا لجمهوريَّة البوسنة والهرسك، ويقود بلاده نحو الاستقلال عن الجمهوريات اليوغوسلافيَّة -رغم التهديدات السياسيَّة والعسكريَّة-، وبعدها بعامين حصلت دولته على اعتراف باستقلالها، ومقعد في الأمم المتحدة؛ لكن سرعان ما اندلعت حرب التطهير العرقي في البلاد، فنظم بيجوفيتش المقاومة الشعبيَّة ضد العدوان الصربي الوحشي، وأسس مجلس الدفاع الوطني وجيشًا للبلاد، وكان يمر بالجبهات والمناطق المُحاصرة لكي يرفع من الروح المعنويَّة للمقاتلين والمدنيين، حتى وَقَّع اتفاقيَّة “دايتون” للسلام عام (1995)، التي أنهت الحرب واقرت بدولة البوسنة والهرسك ككيان موحد.
“إسهامات بيجوفيتش الفكرية”
كان “بيجوفيتش” دارسًا واعيًا للتيارات الفكريَّة المعاصرة، فألف عدة كتب، وقدم الكثير من المحاضرات، والأبحاث، ومن أهم كتبه: “هروبي إلى الحرية”، الذي كتبه في السجن، عندما اعتقله الشيوعيون، في الفترة ما بين (1983- 1988) تأمل فيه: الأدب، الفن، الدين، والأخلاق. بجانب كتاب “الإسلام بين الشرق والغرب” الذي كان بمثابة موسوعة علميَّة هز بها أركان العالم الغربي، وخاطب فيه قادته، فكان فيه عالمًا، وفيلسوفًا، وأديبًا، وفنانًا. ارتقى بالعلوم عندما ربطها بهُدى الإسلام، حتى وصفه الدكتور عبدالوهاب المَسيري -رحمه الله- بالظاهرة الفريدة، فقال عنه: “أننا عندما ننظر إلى علي عزت بيجوفيتش، فنحن نشاهد ظاهرة فريدة في تاريخ الإنسان، وتاريخ الإسلام”، وقال عن كتابه الإسلام بين الشرق والغرب:” لو قرأتُ هذا الكتاب مُبكّراً لوصلتُ إلى نتائجٍ كثيرة، كنتُ قدْ وصلتُ إليها مُتأخّرًا”.
الجوائز التي حصل عليها لم يكن يتطلع إليها يومًا، وإنما كانت تأتيه طوعًا؛ لدوره في ميادين الفكر والسياسة، فحصل بيجوفيتش على “جائزة الملك فيصل العالميَّة لخدمة الإسلام” عام (1995)، تلتها جائزة “مفكر العام” من مؤسسة علي وعثمان حافظ، وتقديرًا لجهوده في خدمة الإسلام والمسلمين، نال جائزة “مولانا جلال الدين الرومي” من تركيا، وجائزة “دبي الدولية للقرآن الكريم”.
“الوصية الأخيرة”
رحل علي عزت بيجوفيتش إلى جوار ربه في عام (2003)، عن عمر ناهز الـ(78) عامًا، تاركًا وراءه إرثًا فكريًا وسياسيًا، ما زال تأثيره حاضرًا حتى اليوم، ووصيته التي قال فيها: “أن نكون بشرًا وأن نثبت على ذلك، هي مسؤوليتنا أمام الله وتجاه أنفسنا”، وهذا ما نتذكره عندما نقرأ في حياتهِ كما علمنا، أن نتمسك بإنسانيتنا وأن نكون بشرًا ونثبت على ذلك، فهي مسؤوليتنا أمام الله وأمام أنفسنا.